دراسة:  بصدد العوامل التي يمكن أن تقوض أمن الصين ومستقبلها 2/2

3 ـ تغيرات في الوعي الاجتماعي

باستثناء قلة قليلة من الصحف الماركسية، فإن المقالات التي تنتقد البورجوازيين الليبراليين اختفت من الصحف ووسائل الإعلام. فالليبرالية البورجوازية لم تنتعش فقط بل تكثفت أيضاً لدرجة لم تعرفها قبل أحداث 1989.

فعلى الصعيد النظري تجلت الليبرالية البورجوازية بشكل خاص بالأشكال التالية:

ـ تطبيق نظرية اقتصاد السوق الحديثة بغية التصدي لنظرية اقتصاد السوق الاشتراكية. وهذا ما أدى إلى تطور اقتصاد السوق المشابه للسوق الرأسمالية.

ـ نفي كون الملكية الاجتماعية والملكية الخاصة هما الفرقان الرئيسيان بين النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي، بغية البرهنة على أن الملكية الخاصة تتفق مع النظام الاشتراكي وهي جزء مكون منه، إضافة إلى مهاجمة الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، والقول: «إن هذا يعني اشتراكية وحشية شرسة، ويمينية متطرفة»

ـ المطالبة بوضع الملكية الخاصة قيد التطبيق تحت ذريعة أن الملكية الاجتماعية لا تلائم اقتصاد السوق.

ـ التأكيد بأن الملكية الاجتماعية ليست هدفاً والمطالبة بتخفيضها إلى حد إنهائها.

ـ اقتراح أن تصبح الملكية الاجتماعية ملكية خاصة عن طريق نظام الأسهم وبنقل حقوق الملكية إلى الأفراد.

ـ الدعوة لأن تغير الصين نظامها السياسي تغييراً جذرياً.

ـ المطالبة بإنشاء تجمع سكاني يعتمد على الرأسماليين للتخلص من دكتاتورية البروليتاريا التي تحمي النظام الاشتراكي وتكبح الرأسمالية، وخلق شروط لتحويل دكتاتورية البروليتاريا إلى ديكتاتورية البورجوازية.

ـ الرفض البات لكل إنجازات البناء الاشتراكي في خلال الأعوام الثلاثين المنصرمة، ورفض تجربة الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماوتسي تونغ.

ـ اعتبار الستين عاماً من تاريخ الحزب فترة تطرف يميني مسؤول عن المصائب والنكبات، ورفض النظرية الماركسية المتعلقة بصراع الطبقات ودكتاتورية البروليتاريا.

ـ رفض نظرية الاشتراكية العلمية واعتبارها نظرية تقليدية عفّى عليها الزمن، وذلك من أجل البرهنة على أن رؤية ماركس للمجتمع الشيوعي لم تكن إلا وهماً وخيالاً.

ـ الدفاع عن النزعة الغربية وعن الكونفوشوسية وإحلالها محل الماركسية.

ـ تشجيع المدرسة ما بعد الحداثوية في الثقافة بين الجماهير، بمعنى آخر، تأسيس الثقافة المنحطة التي تفضي إلى إلغاء «الإيديولوجيا السائدة» أي الماركسية.

ـ مهاجمة نمط المواطن الغيريّ، بدعوى أن هذا مجرد طوباوية، وفكر خاطئ يشوه الإنسان ويحتقر النمط الحقيقي والنشيط.

ولقد انتشرت تلك المقترحات البورجوازية الليبرالية دون ضابط تحت غطاء النضال ضد «النزعة اليسارية». والحصار النظري، واستبعاد المبادئ الأربعة الأساسية سيؤدي إلى تفتيت الأساس النظري لدكتاتورية البروليتاريا وستضع أساس مثلنا العليا في خطر.

بدراسة العبر من «حركة من أجل الديمقراطية للعام 1989» طورت القوى البورجوازية والليبرالية، في الداخل والخارج، مستوحية المناخ في الصين وفي الخارج، منهاجياً وحددت مواقعها في خلال السنوات الأخيرة. فرأت أن الخيار الوحيد والواقعي من أجل الصين والسبيل الوحيد أمام الحزب الشيوعي لإنقاذ نفسه والأمة هو في التالي: «إلغاء المضمون الأيديولوجي للدعاية والأيديولوجيا»، أي إضعاف الماركسية، والتخلي التدريجي عن المبادئ الأربعة الأساسية، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد السوق الحرة المستند إلى الملكية الخاصة، وتحويل السياسة إلى ديمقراطية برلمانية تستند إلى التعددية الحزبية، محدثة «تبدلاً سلمياً» دائماً نحو الرأسمالية، وعبر إصلاحات تتم خطوة خطوة. وبالتعاون مع البلدان الرأسمالية والقوى المعادية في الخارج لبسط نفوذها السياسي في البلد (الصين) وفي البلدان الأجنبية.

وتحت تأثير تيار البورجوازية الليبرالية حدث في السنوات الثلاث الأخيرة تغير على صعيد التوعية الاجتماعية في الصين: الأمر الذي كان يعتبر صحيحاً في الماضي (والذي ثبتت صحة بعضه) أصبح خطأ، والإنجازات الجديدة للثورة الاشتراكية صارت مكتسبات تقليدية، في حين اعتبرت شركات القروض والبيوع بالمزاد تجديدات ناجمة عن الإصلاح.

والذين اغتنوا فجأة بطرق أخرى غير العمل يتناحرون فيما بينهم: يأكلون، ويشربون ويغشون بيوت الدعارة ويلهون، مؤملين تحريض الناس على الاحتذاء بهم. فالفنادق والمخازن الفخمة والنوادي الليلية وملاعب الغولف وحمامات الساونا وقاعات التدليك والمواخير المخصصة للأغنياء من رجال المال غزت المناطق المتطورة اقتصادياً، وأصبح المال المعيار الذي تستخدمه وسائل الإعلام للحكم على القيمة الاجتماعية ومهنة الإنسان. وتضخم الذات، وعبادة المال، ومذهب اللذة، أصبحت كلها المحور الرئيس للحياة بالنسبة لعدد من الناس يتزايد باستمرار، وغدا تقليد نمط حياة الغرب الموضة المستوحاة.

قبل هذا، كان الناس يعتبرون العمل في المصانع وفي الأرياف ــ حيث البلاد بحاجة ماسة ــ شرفاً لهم. واليوم يريدون العمل في الشركات، وفي الخارج حيث يمكن أن يجنوا مالاً.

تحت تأثير ثقافة هونغ كونغ وتايوان والبلدان الغربية، صار تقليد هذه الثقافات والإعجاب بكل ما يأتي من الخارج والتوق إلى الرأسمالية هدفاً ليس لبعض الشباب الجاهل بل تعدتهم لتصل إلى المثقفين وكوادر الحزب والحكومة.

من البدهي أن لا ننتظر من هؤلاء مساندة حكومتهم والدفاع عن بلدهم عند نشوب مواجهة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية أو أي بلد آخر. بالعكس سيكونون أميل إلى خيانة مصالح بلدهم ولو تعرض أمن الصين من جراء ذلك للخطر.

4 ـ التغيرات التي طرأت على وضع الحزب الحاكم

أ ـ ضعف تنظيمات الحزب

فيما مضى كانت تنظيمات الحزب هي الركن الأساسي للنضال. وكانت الجماهير تلتف حولها وتستمع إليها. بل كانت هذه الكوادر تستطيع القيام بعمل أيديولوجي سليم بين أعضاء الحزب والجماهير؛ إذ كانت تشكل النواة القيادية لمجموعة العمل أو للقرية وتطبق بشكل فعال المبادئ الأساسية والقرارات الاستراتيجية والتكتيكية التي يتخذها الحزب.

فخلال أحداث 1989كانت القضايا التي تحلها تنظيمات الحزب أخذت تحلها مباشرة قوى الأمن وجهاز الدولة. والسبب تحديداً هو ضعف تنظيمات الحزب بما يشبه إلى حد بعيد مرض هشاشة العظام. وضيق مدى نشاط الحزب وفاعليته النضالية جعله في وضع يستحيل عليه قيادة الشعب بصورة حازمة. ونتيجة لتفكك الاقتصاد الجماعي وتدفق الفلاحين إلى بعض المدن، أصبحت فروع عديدة من الحزب غارقة في بحر من الضعف والعجز، حتى أن بعض التنظيمات الحزبية أضحت خاضعة لتأثير الطوائف الدينية. وبالتالي أصبح الخطر يحيق بالاستقرار في هذه المناطق وبقاعدة العمل الحزبي فيها.

ب ـ تغير في أيديولوجية بعض أعضاء الحزب

يعتقد بعض أعضاء الحزب أن الاشتراكية فشلت، والطريق إلى الاشتراكية مسدود، وليست الشيوعية أكثر من وهم وخيال، والماركسية ـ اللينينية وأفكار ماوتسي تونغ أمور تجاوزها الزمن. يصرح بعض المعلمين والطلاب في شنغهاي: «اليوم يتحدث أعضاء الحزب الشيوعي عن أفكار وروح الحزب أقل مما يتحدثون عن المال!» ويدافع بعض كادرات الحزب عن الطريق السلمي ويطالبون بالخصخصة. ويبحث بعض أعضاء الحزب عن حقل للمناورة خارج الحزب. وآخرون مستعجلون لجعل أنفسهم وأولادهم أنصاراً للبورجوازية الجديدة وأغنياء جدداً. فإن انتشرت هذه التحولات الأيديولوجية في الحزب، سيصعب الاعتقاد أن عدداً كبيراً من أعضاء الحزب سينهضون للنضال بشجاعة ويدافعون عنه إن توفرت الشروط والظروف كأن تنشب في البلاد أحداث تشبه ما حدث في آب في الاتحاد السوفييتي آنئذ يتبدد ويتشتت لن يكون هناك قيمة لخمسين مليون شيوعي هم أعضاء، فضلاً عن ظهور خطر انسحاب أعضاء الحزب الذين سيبدلون مفهومهم عن العالم ويصيرون طليعة جريئة مناهضة للشيوعية، كما جرى في قلب الحزب في الاتحاد السوفياتي.

جـ ـ تغير في علاقة الحزب بالجماهير

في الصين تعمقت الهوة بين الأغنياء والفقراء وتسارع الاستقطاب، فمنذ شباط 1994، ارتفعت نسبة ادخار الأغنياء الذين يمثلون 2% من المدخرين إلى 80% من مجموع المدخرين أي 1300 مليار يوان. أعلن صحفي في كسين هوا:

«إن عمال الصناعة الذين كانوا يعتبرون دوماً محترفين تكوَّن لديهم إحساس أنهم مُهملون. فعاملة النسيج كانت مسؤولةً عن مراقبة الكمية والنوعية نقول: إننا ننهض بعمل صعب منذ حوالي العام، لكن أجرنا منخفض جداً مقارنة برجل أعمال مستقل لا يعمل سوى يومين فقط!.. هذا ظلم!».

وصرح فلاح في «رن شو» بإقليم سيشوان: «اليوم، يفضل الحزب الشيوعي الصيني الأغنياء على الفقراء».

والطبقة العاملة والفلاحون الفقراء خاب أملهم بالحزب الشيوعي إثر الانحطاط في وضعهم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وتكوَّن لدى عدد لا يستهان به من العمال والفلاحين الفقراء فكرة مفادها: أن الحزب يمثل مصالح أولئك الذين لديهم المعرفة والكفاءة والإمكانيات أكثر من تمثيله لمصالحهم.

والمسافة التي تفصل الحزب الشيوعي عن الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء تنذر بعزلة الحزب في اللحظة الحرجة، كما كان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي في أثناء أحداث آب 1991.

د ـ فساد بعض كوادر الحزب والحكومة

في خلال السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة بلغ الفساد مستويين. فمنذ بداية التسعينات وتحت تأثير أفكار من شاكلة «لا داعي للقلق لتحديد ما إذا كان النظام رأسمالياً أم اشتراكياً» و«تقييم كل شيء من خلال النقود»، إلى جانب اختلاس الأموال والفساد والابتزاز والتهريب، وصناعة المنتجات الكمالية والإباحية والدعارة، تضاعف الفساد ووصل إلى أوجه.

وعندما كانت تنفضح جرائم اقتصادية وحالات من الرشاوي، كان المسؤولون يحاولون حماية بعضهم بحجة حماية التصحيح والانفتاح، وأصدر بعض رجال القانون أحياناً في القضايا الخطيرة أحكاماً ذات عقوبة خفيفة.

إن البورجوازية لم تثق قط بالحزب الشيوعي، بل انحط بعض الشيوعيين كما ترغب البورجوازية التي تتمنى قلب الحزب والخلاص منه.

وخلال أحداث 1989، حرضت البورجوازية الجماهير على مهاجمة الحزب بذريعة «النضال ضد الفساد والانحلال». إذاً لم يفض الفساد إلى عزل الحزب ومناوأته للطبقة العاملة والجماهير الواسعة فحسب، بل أعطى حجة للبورجوازية لتهاجمه على كل الجبهات.

 

 

* يتبع