حرق المكتبات و الرسائل و الوثائق النفيسة
أمس كان يوم حرق الكتب. في البدء جاء الناهبون ، و من ثمّ مضرمو النيران. لقد كان الفصل الأخير من نهب بغداد. فقد تحولت دار الكتب والمحفوظات الوطنية إلى رمادٍ في درجة حرارة 3000 ، و هي كنز لا يُقدر بثمن للوثائق العثمانيّة التاريخيّة، بما فيها المحفوظات الملكية القديمة للعراق. وفيما بعد أُضرمت النيران في مكتبة القرآن لدى وزارة الأوقاف.
لقد رأيت الناهبين. و قد شتمني أحدهم عندما حاولت استرداد كتاب للفقه الإسلامي من صبيٍ لا يتجاوز سنه العاشرة. و بين رماد التاريخ العراقي وجدت ملفاً يتطاير في الهواء: أوراقاً مكتوبة بخط اليد بين بلاط شريف مكة ـ الحسين ـ الذي شرع بالثورة العربيّة ضد العثمانيين بتحريض من لورانس الجزيرة العربيّة، و حكام بغداد العثمانييّن.
و لم يقم الأمريكيون بفعل شيء. على طول الساحة القذرة قُذفت رسائل التوصية إلى حاشية الجزيرة العربية، وطلبات الذخيرة للقوات، والتقارير بصدد اللصوصيّة على الجمال والغارات على الحجيج، كلها كُتبت بخط يدٍ نسخ جميل. لقد كان بين يديِّ آخر آثار بغداد للتاريخ العراقي المكتوب. مع الشروع بتدمير الآثار القديمة في متحف الآثار يوم السبت وحرق دار المحفوظات الوطنيّة ومن ثم مكتبة القرآن فإنّ السنة هي السنة صفر بالنسبة للعراق. إنّ هوية العراق الثقافيّة قد مُحيت. لماذا؟ لماذا أَشعلت فيها النيران؟ لأيّ غاية جنونيّة تمّ تدمير هذا التراث؟
عندما ألقيت النظر إلى المكتبة القرآنيّة حيث كان اللهب يتأجج من النوافذ لمئة قدم، توجهت إلى مكاتب قوة الاحتلال: مكتب المشاة البحريّة الأمريكيّة للشئون المدنيّة. أعلن الضابط بصوت عالٍ لزميل له بأنّ «هذا المرء يقول بأن مكتبة الكتاب المقدس (هكذا) تحترق». لقد أعطيت خريطة المكان، وعليها الاسم الدقيق بالعربيّة والإنجليزيّة؛ قائلاً بأنّه يمكن مشاهدة الدخان من على بعد ثلاثة أميال والمسافة إليه تستغرق خمس دقائق بالمركبة فقط. وبعد نصف ساعة، لم يكن هناك من أمريكيّ على المسرح، بينما كانت ألسنة اللهب جامحة في الهواء لمسافة مئتي قدمٍ.
لقد كان ثمة زمان قال العرب فيه إنّ كتبهم تُؤلَّف في القاهرة، و تُطبع في بيروت وتُقرأ في بغداد. الآن تُحرق المكتبات في بغداد. لم تكن دار المحفوظات الوطنيّة تضم مدونات الخِلافة العثمانيّة فحسب، بل تلك التي تتعلق بالسنوات المظلمة لتاريخ البلد الحديث، الروايات المخطوطة لسنوات الحرب الإيرانيّة ـ العراقيّة (1980 ـ 88)، المزودة بالصور الشّخصيّة والمفكرات العسكريّة، والأفلام المصغرة لنسخ الصحف العربيّة التي تعود إلى السنوات المبكرة للقرن العشرين.
لقد كانت الملفات والمحفوظات الأكثر قدماً موجودةً في الطوابق العلويّة من المكتبة، و مما لا شك فيه أنه تمّ استعمال البنزين من أجل إضرام النيران بالمبنى بطريقة تنم عن الاحتراف. لقد كانت الحرارة عاليةً بحيث أن الأرضية الرخامية تغضنت عالياً والسلالم الخرسانيّة التي ارتقيتها قد تشققت.
كان من الصعب مسك الأوراق التي كانت ملقاةً على الأرض لشدة حرارتها، و كانت لا تحمل طباعة أو كتابة، ولحظة التقاطي لها صارت رماداً. مرة أخرى، واقفاً في هذه السحب من الدخان الأزرق و الجمرات، طرحت عين السؤال: لماذا؟
هكذا التفكير الموجع حول ما يعني ذلك. دعوني أقتبس من المزق الورقيّة التي وجدتها على الطريق خارجاً، تتقاذفها الريح، تلك التي كتبها رجال ماتوا من عهد بعيد، حيث أرسلوا إلى الباب العالي في استنبول، أو إلى بلاط شريف مكة عبارات الولاء، التي ذيولها «عبدك» . كان ثمة مطلب من أجل حماية قوافل الجمال التي تحمل الشاي، والرز، والسكر، موقعة من قبل حسني عطية الحجازيّ (يزكي عبد الغني نعيم، وأحمد كندي كتجار شرفاء)، وطلب للعطور والنصيحة من جابر العيّاشي من حاشية الشريف حسين الملكية في بغداد من أجل أن يحذره من اللصوص في الصحراء. يقول عياشي: «هذا لإعطائك نصيحتنا فقط، والتي سوف تُكافأ عليها بشدة». «إذا لم تأخذ بنصيحتنا، فإننا قد بلغناك». رأيت مسحة من صدام هناك. التاريخ كان 1920.
بعض الوثائق تعدد ثمن الرصاص، الأحصنة العسكريّة والمدفعية للجيوش العثمانيّة في بغداد والجزيرة العربيّة، بعضها تسجل افتتاح أول مركزٍ هاتفيٍّ في الحجاز، الذي صار لاحقاً العربيّة السعوديّة ، بينما تروي إحداها، من قرية أزرق في الأردنّ اليوم، سرقة عليّ بن قاسم لثياب من قافلة جمال، الذي هاجم مستجوبيه «بالسكين وحاول طعنهم، لكنه قُيّد وفدى نفسه لاحقاً». ثمة رسالة تزكية تعود إلى القرن التاسع عشر لصالح التاجر يحيى مسعودي، «رجل ذو أخلاق حميدة، وسلوك قويم والذي يعمل مع الحكومة العثمانية». بكلمات أخرى، كان هذا بساطاً مطرزاً للتاريخ العربي. كله تُرك، ووقع بيدي الإنديبندنت كمجموعة من الوثائق التي تفرقع في حرارة الأنقاض العالية.
إن الحسين بن عليّ ملك الحجاز، حاكم مكّة، الذي كانت حاشيته قد حررت رسائل عديدة من التي أنقذتها، قد خلعه السعوديون. فصار ابنه فيصل ملك العراق، بعد أن أعطاه ونستون تشرتشل بغداد على إثر طرد الفرنسيين له من دمشقَ، وأخوه عبد اللّه صار أولّ ملك للأردنّ، جد الملك حُسين وأبو جد العاهل الأردنيّ الحالي، الملك عبد اللّه الثاني.
لأكثر من ألف سنة، كانت بغداد عاصمة العالم العربيّ الثقافيّة، وسكانها الأكثر تعلماً في الشرق الأوسط. في القرن الثالث عشر الميلادي قام حفيد جينكيز خان بحرق المدينة، و قد قيل إنَّ مياه دجلة كانت تجرى سوداءً جرّاء حبر الكتب. البارحة 14 / 4 / 2003، امتلأت سماء بغداد برماد آلاف الوثائق القديمة الأسود. لماذا؟
■ روبرت فيسك