العراقيون يلتقطون الأنفاس، وهناك من يسأل: متى ستدق ساعة الصفر؟!

■ لايمكن أن نلوم الشعب العراقي فالشعوبـ لاتخون..

■ مشكلتنا أننا نراهن على التناقضات الدولية.


■ هيئة الأمم المتحدة انتهت بفعل معادلات القوة، وشريعة الغاب.

■ في العراق احتلال، والحرب بدأت الآن، ولن تنتهي إلا بانسحاب الأمريكيين.

■ أمريكا تفتقر إلى الإرث الحضاري، وأحقادها المتفجرة في بابل ومتحف بغداد، تدل على ذلك.

■ دبابات أمريكا، ستجلب الدمار لأمريكا نفسها..

مقهى ساحة شمدين، يأخذ شكل العائلة، وإن كان رواده لايرتبطون بصلة دم، وإن كان بعضهم خارجاً عن دائرة العائلة والزواج، وإن كانت العائلة نفسها قد أخذت شكل الشركة التي تباعد الشركاء فيها، لدرجة لاتجمعهم معها مائدة ولامصير.

فالعوائل، كما الجغرافيات، كما العلاقات، كما المفاهيم، جميعها تفككت بفعل الجغرافيا السياسية، للأقاليم والبلاد، التي لم ترسم على هذه الشاكلة، إلاّ ليعاد تشكيلها على شاكلة جديدة، بفعل المصالح الجديدة.

وبعد أن حطت الحرب أحمالها، ودخل الجنود المارينز …. بصحبة جنود ملكة بريطانيا الأكثر لطفاً، انطفأت الكثير من الرغبات، كما انطفأت النراجيل في هذا المقهى..

لم يعد بالوسع التوقع ولا التنبؤ، فقد اتخذ الحدث شكله الواضح، بما لم يدع مجالاً للتوقع والتنبؤ باستثناء أحاديث قصيرة، وصغيرة وعابرة، ومملة مرشوقة فوق الطاولات، كتلك المتعلقة بمصير صدام حسين، وأولاده، وأشباهه، وزوجاته، وعشيقاته لنكتشف مع تلك الأحاديث، أن هناك فن عمارة لم يخلق ولم يدرس إلاّ في مناهج العملاق العراق، والذي سماه حاكم العراق «فن العمارة الصدامية» ولنحصي مع رواد المقهى آلاف القتلى، ومئات المعتقلين  الذين غرقوا في المياه الصدامية، التي فجرتها صواريخ «محور الخير»..

الجلسات القليلة التي جمعت أولئك الناس، لم تخل من النكات المعصورة من الآلام المزمنة بحيث بدا الدم نكتة لاتضحك كما الكتابة الصحفية أو الإذاعية، وهاهو زبون يطلق نكتة كان يعتقد أنها من تأليفه الخاص والنكتة تقول:

(حاصر جنود صدام جنود المارينز في العراق، ثم قتلوهم وانطلقوا بعدها لتحرير واشنطن)..

ثم أطلق ضحكة مفتعلة ليؤكد بعدها أن هذا آخر ماصرح به محمد سعيد الصحاف..

الرجل هذا كان قد انتهى من سرد نكتته التي لم تكن لتشجع أحداً على أن يضحك…

■ أبو جوان، وهو الزبون المعروف بهذا الاسم، يقول لنا، إن القوات الأمريكية، لن تبقى في العراق، ولن تطيل المكوث فيه، فليس ثمة برأيه، أي مصلحة لبقائهم هناك، طالما أن الحكومة العراقية المتوقعة، وإدارة العراق المتوقعة، وأجهزة الاستخبارات المتوقعة، مختومة سلفاً بالخاتم الأمريكي، وهو يتوقع أن يأخذ الجنود طريقهم نحو واحد من طريقين:

الأول: باتجاه سورية، لتكون سورية هي البلد الثاني المستهدف أمريكياً، كي تكتمل ـ كما يقول أبو جوان ـ خريطة إسرائيل الكبرى.

والثاني: باتجاه واشنطن، كي تستكمل إدارة اللعبة لاسلكياً..

■ زبون آخر يتذمر من وجهة النظر تلك، ويلقي سيلاً من النعوت على أبو جوان، نسأله بعدها عما يريد قوله، ليقول لنا:

طبيعي أن يعقب احتلال الطغيان احتلال الأجنبي، فلو كان ثمة شعب مشبع بالحرية، لما تمكنت أمريكا من دخول بغداد، ولاكانت تجرأت على دخولها، ولقاتل العراقيون إلى جانب نظامهم وقيادتهم، ولايمكن أن نلوم شعباً كشعب العراق، مر بظروف ومآس، منعته من خوض القتال الحقيقي، ومن الغريب أن نقول إن الشعب العراقي خان، فالشعوب تاريخياً لاتخون، ولايمكن أن تتخاذل، إلا أن الزمن قد جار على العراقيين ليقعوا في أقسى معضلة أخلاقية: عليهم أن يدافعوا عن بلادهم من جهة، وبالتالي عليهم أن يدافعوا عن جلادهم من جهة أخرى..

■ في مقهى الروضة البعيد عدة كيلومترات عن ساحة شمدين، يجلس تونسي شاب يحضر للماجستير في الفلسفة، يرشف قهوته ويقول:

■ مشكلتنا دائماً أننا نراهن على فيتو فرنسي، أو فيتو روسي، أو فيتو صيني، لم ندرك بعد أن الفيتو انتهى مع انهيار الحرب الباردة، ولم ندرك أيضاً أن الأمم المتحدة باتت أشبه بمجمع اللغة العربية، ولم نسلم بعد أن هذه الهيئة قد انتهت بفعل معادلات القوة وشريعة الغاب..

بمعنى أوضح، علينا ألا نراهن على الدول الكبرى، وعلى انتهاج سياسات تعتمد استغلال التناقضات الدولية، نحن بحاجة لحل تناقضاتنا كعرب، وكمسلمين، وكدول عالم ثالث..

حرب العراق لم تبدأ بعد، وأنا لاأزاود ولا أبالغ، فالحرب الحقيقية بدأت الآن، لن تنتهي إلا بانسحاب الأمريكيين، وبناء العراق الحر على يد العراقيين، لاعلى يد شركات النفط الأمريكية..

العراق الآن، بلد لايحكمه صدام، ولايوجد فيه سجون، ولاتماثيل، ولاأحزاب دكتاتورية..

في العراق الآن احتلال، وفقط احتلال، والشعب العراقي يدرك ذلك، ولن يسمح بأن تحتل أرضه، وهو باعتقادي بحاجة إلى فترة قصيرة جداً، ليعيد توازنه ويعبئ الفراغ السياسي الحاصل، ويبدأ المقاومة الفعلية وعندها ستحين ساعة الصفر…

■ المهندس مثقال قرقماس، والذي يجلس إلى طاولة مجاورة، يقوم عن كرسيه مقاطعاً ومتدخلاً:

مايقوله الشاب صحيح، وأمريكا لن تستطيع البقاء في العراق لفترة طويلة، وهذا يعود لسبب واحد فقط: أمريكا كما إسرائيل، وبخلاف المحتلين السابقين تفتقر إلى أي إرث حضاري أو تاريخي، وأحقادها المتفجرة في معبد بابل، والحدائق المعلقة، ومتحف بغداد ومكتبته، تدل على ذلك، وإذا ما أرادت أمريكا البقاء من الآن إلى عقد قادم، فعليها أن تكرس نفسها لحضور أخلاقي في حياة الناس، كثقافة كقبول.. وهذا مالن تستطيعه، ليس بفعل المقاومة المستقبلية فقط، بل بفعل فقرها الحضاري أيضاً… أمريكا فرضت نفسها عسكرياً ولاداعي للمزاودة في ذلك، إلا أن دبابات أمريكا ستجلب الدمار إلى أمريكا نفسها، ولن تستطيع أن تدمج شعباً عمره آلاف السنين، في وجبات البيتزا السريعة وعقود الشركات الأكثر سرعة، فالشعب العراقي سينتج قياداته وأحزابه وقواه التي ستدافع عنه حتماً، وستخرج أمريكا من العراق، تماماً كما خرجت من فيتنام، تماماً  كما خرجت من الصومال، والأمر يستدعي فقط أن يلتقط العراقيون أنفاسهم بعد أن عانوا ثلاثين عاماً من القهر والظلم والاستبداد ومن المنافي والسجون والمقابر، ولابد أن تفاجئنا الأيام القادمة بما لابد أن يكون..

■ أبو الحكم، نادل الروضة الشهير، يقف مبتسماً وكأنه يؤكد دون أن ينطق بأي كلمة، مايقوله المهندس المنفعل في حديثه، فيما يجلس مجموعة من المثقفين العراقيين  الذين يحملون كماً هائلاً من التفاصيل الصغيرة، مرفقة بكم مماثل من الصحف والأوراق، ينقبون فيها عن صدام، وحياته اليومية، عن بنادق الصيد المذهبة، عن البنات اللواتي يأتين قصوره عذراوات ليخرجن بأحشاء تعد بأخوة جدد لعدي صدام حسين، مقالات تدقق في هوايات ابن القائد، وخليفة أمير المؤمنين، مقالات تحصي ثروته من السيجار الكوبي الفاخر، وفي الصفحة الأخيرة من صحيفة مهاجرة إلى لندن، يكتب رئيس التحرير زاوية مضحكة جداً، عن حكاية دامية جداً، رواها له فتى سوري، عاد من أرض العراق بعد أن حارب ورفاقه «علوج» الأمريكان وشهد معركة المطار، ومعارك أخرى لم تسفر عن استشهاده كما كان يرغب، وحالما قرأنا العنوان، لم نجد هنالك حاجة لإطلاق خيالنا الحكائي، العنوان يقول:

. «Made in usA»

■ صديقنا النحات الذي كان قد رأى بأم عينه سقوط حضارة العراق، وآثار العراق ومعابد العراق وشهد إبادتها عن بكرة أبيها، فلم ينبس ببنت شفة، واكتفينا بالنظر إلى يده اليمنى المعطوبة بفعل المنعكس الشرطي، بعد أن ضرب بها على أقرب منحوتة كانت أمامه، كما قال لنا صديقه الذي يشاركه الجلوس حول الطاولة، فيما نسمع من بعيد، بعض الأصوات التي تعيد سرد ماسمعنا سرده مرات عدة….

■ المحرر