فدائيو «الوهم المتبدد»... مقاتلون من أجل حرية الأسرى
جاءت نتائج العملية البطولية _ الأسطورية كما وصفها بعض المراقبين _ يوم الخامس والعشرين من الشهر المنصرم في «كرم أبو سالم»، لتعيد فرز العديد من الأوراق، ولتسلط الأضواء على مسارات متنوعة، حاول أكثر من طرف/لاعب دولي، إقليمي، ومحلي أن يَدفـَعَ إليها جماهير أمتنا وشعبنا لوضعها على حافة اليأس والاستسلام. وإذا كان الفرح الجماهيري الواسع الذي غطى نتائجها-التي من أبرزها، أسر العسكري، وتحديد طلبات الإفراج عنه، بإطلاق سراح مايقارب الخمسمائة من الأسيرات النساء والأطفال والأحداث- قد عكس مشاعر الملايين التي عاشت منذ عدة أشهر في حالة من الذهول والقلق والإحباط، وهي تتابع بعيونها ودمائها وأرواحها عبث بعض أخوة السلاح أو «الدخلاء» على هذا السلاح، بدوره السياسي، في محاولة لتفريغه من محتواه النضالي المقاوم. فإن هذه الجماهير قد عبرت ومنذ اللحظات الأولى عن تضامنها مع القوى التي نفذت العملية، ووفرت لها الإسناد السياسي / التعبوي، كما عبرت عنه من خلال الاعتصام الذي نفذته في «غزة» و«رام الله» أمهات وشقيقات وزوجات الأسرى في سجون العنصرية الصهيونية.
إن قراءة موضوعية لهذا الحدث النوعي، تحمل عدة مؤشرات هامة، يمكن أن تتحدد من خلالها مجموعة من الدلالات. فقد عكست خطوات تنفيذ العملية، مهارات خاصة تمتلكها القوى الثلاث التي نفذتها «كتائب القسام _ حماس، ألوية الناصر صلاح الدين _ لجان المقاومة الشعبية، جيش الإسلام» وذلك من خلال العمل الدؤوب والمثابر في ظل شروط الحماية الأمنية الدقيقة، خاصة مع عمليات حفر النفق على عمق تسعة أمتار وطول يقارب الألف متر، مما يعني توفير حاضنة جماهيرية محكمة الضبط، وفرت الغطاء لكل عمليات التحرك للرجال والمواد. كما أن نجاح العملية يؤكد تواصل عمليات الرصد والاستطلاع المحددة، التي وفرت للمقاتلين فرصة مباغتة قوات العدو في الموقع «الآليات والأفراد» من الخلف، وتحقيق الانسحاب عبر أساليب ضللت جيش الاحتلال، وهو ما شكل إرباكاً ورعباً حقيقياً لجيش الاحتلال، خاصة وأن «هيبة» جنرالات وضباط جيش الحرب والعدوان قد غاصت في مستنقع التقصير.
مما دفع ببعض المصادر الاسخباراتية / العسكرية للقول عن بعض أهداف العملية من أنها (جباية ثمن على حادث الإختطاف، وترميم قوة الردع ). وهذا مايحاول قادة المؤسسة العسكرية نقله لخارج حدود كيانهم، في محاولة لتصدير أزمات وتفاعلات الهزيمة المعنوية والمادية إلى دول الجوار، وهو مانفذته طائرات العدو، بعدوانها السافر على الأجواء الساحلية السورية، وحملاتها السياسية / الإعلامية التحريضية ضد الموقف السوري، وتحديداً في تعبيرها الوقح المشبع بالعنصرية والكراهية، المندوب الصهيو /أمريكي «بولتون».
إن التوقف عند واحدة من أبرز دروس العملية، يتحول إلى نقطة مضيئة تبدد «الالتباس» الذي رافق وصول «حماس» للمجلس التشريعي وتشكيل الحكومة. لقد أعادت مشاركة «كتائب القسام» بالعمل المسلح القتالي «الاشتباك المباشر وعمليات الاقتحام» الاعتبار إلى المبادئ التي بقيت الحركة تلتزم بها، بالرغم من مشروعية التساؤلات عن إمكانية ومقدرة «حماس»- ولو مرحلياً - على ضوء التزامها بما اصطلحوا تسميته «تهدئة»، على إدارة الحكومة ومؤسساتها، والمشاركة بفعالية في عمليات المقاومة.
لقد فتحت عملية أسر العسكري «جلعاد شليط» المترافقة مع عدد من القتلى والجرحى «بينهم الملازم القتيل مسؤول الدبابة» عيون العديدين -المصابة تارة بالعمى وتارة بالحَوَل- والخاضعة في معظمها لـ«الرؤية الأمريكية /الصهيونية» على «وحشية الفلسطينيين» و«إنسانية ووداعة جنود وضباط جيش الدفاع» حسب تسمياتهم المفضلة!. إن هذا «الجلعاد» الذي أسره المقاتلون كان يمارس مهامه الحربية في موقعه وداخل دبابته، ولهذا تسقط كل الأقنعة التي يحاول «دعاة» الإنسانية التستر خلفها. إن هؤلاء يشيحون بعيونهم عن الواقع الذي تعيشه الملايين من أصحاب الأرض على مدى ستة عقود تقريباً.
لقد جاءت خطوات التصعيد الوحشية التي لجأ لها العدو، في محاولة منه للضغط على القوى المقاتلة من أجل إعادة العسكري الأسير أو «المختطف» لتفصح عن الأهداف الحقيقية للحملة العدوانية الدموية الواسعة والتي حملت اسم «أمطار الصيف» والتي لاتعدو عن كونها الجزء الأهم من خطة أكبر، كما يكتب «اليكس فيشمان» في جريدة يديعوت أحرونوت يوم 30/6 (خطة إفشال حكومة حماس تمت مناقشتها وإقرار خطوات تنفيذها في أعلى مستويات القيادة، بعد وصول حماس للسلطة بأسابيع، بهدف تفكيك هذه الحكومة، إن هذه الخطة «أمطار الصيف» هي جزء من عملية التفكيك لحماس)، وقد وُضِعت آلية لتنفيذها في إطار «الدحرجة» التي تركزت وحشيتها منذ اللحظات الأولى في محافظات غزة، بالغارات الجوية العنيفة التي أدت إلى تدمير محطة الكهرباء، وقصف عدة جسور رئيسية ومراكز تعليمية وإعلامية وخدماتية، وبمشاركة المدفعية الثقيلة في ضرب أجزاء واسعة من المناطق الشمالية، تحت دعوى حرق المناطق التي تنطلق منها الصواريخ الفلسطينية.
وانتقلت دحرجة كرات الدم والنار إلى أحياء «نابلس» ومقبرتها، وشوارع «جنين» ومخيمها ومراكزها ومؤسساتها لتحصد أرواح المواطنين، وتحرق ممتلكاتهم. كما لجأت إلى أبشع أشكال الاضطهاد والعسف، حينما أقدمت في العديد من مدن الضفة الفلسطينية على اعتقال ثمانية وزراء وستة عشرين نائباً والعشرات من رؤساء المجالس البلدية والقروية، وسحب هويات الإقامة للنواب والوزراء المقدسيين، كإجراء لشطب قيودهم من سجلات مواطني مدينة القدس. وأمام صلابة المقاومين وإصرارهم على رفع سقف مطالبهم «تحرير ألف من الأسرى، من ضمنهم القيادات والمرضى وأصحاب الأحكام العالية» انتقلت حكومة العدو لمرحلة جديدة من التصعيد، فانطلقت صواريخ طائراتها لتدمر مباني مجلس الوزراء والداخلية في تأكيدات واضحة على أن «إسماعيل هنية وسعيد صيام» في دائرة الاستهداف. وبدأت مدرعاتها تتقدم لتزرع الموت والحرائق في أكثر من مكان داخل محافظات «غزة» الصامدة.
في ظل هذه التطورات، برز تعامل مؤسسة «الرئاسة» وأركانها مع هذا الحدث النوعي، وكأن العملية البطولية لم تكن خطوة على طريق النضال الوطني، بمقدار ماجاءت «في غير توقيتها»! وهذا ماعبرت عنه تصريحات «محمود عباس، نبيل أبو ردينة، جبريل الرجوب». وعوضاً من أن يكون موقف الرئاسة متطابقاً مع موقف الحكومة، ومنسجماً مع التوقيع على «وثيقة الوفاق الوطني» التي تم التوافق عليها - بعد إدخال بعض التعديلات المحدودة اللفظية/الشكلية.. كما وصفها البعض - من أجل إنتاج موقف جماعي للتعامل مع انعكاسات العملية الفدائية، ولمجابهة اعتداءات العدو المستندة على دعم حاكم «البيت الأبيض» وتوابعه في أكثر من قارة.
لكن تصريحات «عزام الأحمد» رئيس كتلة فتح البرلمانية، أثناء تعقيبه على اعتقال الوزراء والنواب، وإشارته إلى (المخاوف من الوقوع في الفراغ الدستوري، في حال استمرار اعتقالهم) أثارت حالة واسعة من المخاوف الداخلية، من خلال الإيحاءات بوجود خطة متكاملة للإطاحة بحكومة إسماعيل هنية. وفي ظل ردود الفعل الوطنية الساخطة على هذا الموقف، أصدر المجلس الثوري لحركة فتح بياناً هاماً، أكد فيه «أن كل المحاولات لإحداث فراغ سياسي على الساحة من خلال ضرب المؤسسات الدستورية وتفريغها من محتواها ستبوء بالفشل، ولن يتزعزع النظام السياسي بفعل الدبابة الاسرائيلية».
إن مايجري هذه الأيام، هو امتداد لعقود من الصراع. وإذا كانت ترسانة الأسلحة التي يمتلكها العدو تستطيع احتلال المزيد من الأرض وجرف التربة وقتل المواطنين، فإن إرادة المقاومة والتضحية التي يمتلكها شعبنا على مدى التاريخ، تؤكد على صلابة الموقف الشعبي في مواجهة المحتل، وتبرز عملية كرم أبو سالم، والملحمة البطولية التي سطرها وليد الشحروري قبل أيام في مقبرة نابلس، كشواهد على قدرات هذا الشعب في تصديه لآلة الموت «المتدحرجة». إن تمسك المقاومين بمطالبهم سيرغم العدو على الاستجابة لإطلاق سراح الأسرى (تجارب المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية) فالقوة هي وحدها التي تنتزع الحرية، ووعود «الوسطاء والسماسرة» لن تجلب إلا ّ الفشل والانكسار للوطنيين، وإعادة الاعتبار لقوى الأعداء. إن توفير عوامل الدعم والإسناد الشعبية العربية والأممية لمطالب المقاومين العادلة والمشروعة، سيقطع الطريق على دعاة «فك فتيل الأزمة» بإعادة العسكري الأسير، والرهان على «وعود» القاتل. إن إطلاق سراح أسرانا وأسيراتنا ووقف عمليات القصف والتدمير والقضم هو الذي سيحقق عودة «جلعاد» لعائلته. لكن إصرار حكومة «أولمرت» على رفض إطلاق سراح الأسرى، سَيُعجل بالنهاية «المتوقعة» للجندي (عبر طي وإغلاق هذا الملف) كما جاء بتصريحات أحد قادة «لجان المقاومة الشعبية».
إن تاريخ الخامس والعشرين من حزيران، سيكون نقطة مضيئة في التاريخ النضالي الفلسطيني، وستشكل عملية إطلاق سراح أسرانا _ رغم كل مايكتنفها من صعوبات _ مع ماحققه الإنجاز القتالي في «كرم أبو سالم» انعطافة في مسيرة نضالنا الوطني، لأنها ستؤسس لمرحلة جديدة في إدارة الصراع مع العدو.