هواء طلق.. تبديد الوهم
كان لا بدّ أن يصعقنا المشهد، ففيه من إهانة وطننا، وشهدائنا، وأمهاتنا، وعذاب بناتنا وأولادنا، مذبوحين، أو هائمين، تائهين على الرمل، كميّة من الابتذال غير مسبوقة منذ بدأت مسيرة (أوسلو) الكارثيّة...
لكن من يعرفون رئيس السلطة، ومن سمعوه يبشّر بدولة (ولو على مزبلة) _ وهذا من أقواله المأثورة، فليس ماوتسي تونغ، وجيفارا، وعز الدين القسّام، وجمال عبد الناصر، وهوشي منه، ومانديلا، وحدهم أصحاب الأقوال المأثورة _ لم يفاجؤوا بما رأته عيونهم من مشهد عار لا ينسى، ولا يغتفر...
ارتمى رئيس السلطة على كتف ايهود أولمرت بينما الأشلاء على الرمل، وفي الشوارع وتحت الدمار، لم تجمع، ولم تدفن، وإيهود يعلن من فوق منبر حاملي نوبل للسلام: (أرض إسرائيل من النهر إلى البحر) ! (لن نعتذر عن قتل المدنيين...)، وهذا ما دفع صحفيّاً فلسطينيّاً منحازاً (لمسيرة السلام)، أن يخرج ليعلن لقناة الجزيرة وهو يرتجف حنقاً: أولمرت جاء بخطاب حرب، إنه سيغوص في دم الفلسطينيين حتى شعر رأسه، أولمرت لا يريد سلاماً...
في المدينة الورديّة العريقة، مدينة البتراء، مدينة الأنباط العرب الأقحاح _ غريب أن فيزل وأولمرت لم يدّعوا بعد أن أجدادهم هم بناة البتراء _ التقى حملة نوبل للسلام، ولكن غاب واحد من حملة نوبل للسلام، غيّب هذا الواحد بالسّم، ونسي وطويت صفحته، فللسلام جنود من عسل، يؤدّون مهمتهم الحلوة ببراعة!...
غاب ياسر عرفات عن مؤتمر السلاميين، ولم يطالب بالتحقيق في (موته) أخوه في المسيرة، ولا أقول السلاح، لأن أبا مازن ينفر بطبعه من مجرّد ذكر كلمة (السلاح). لم يمّر أبومازن على ذكر عرفات، ولا تذكّره زملاؤه نوبليو السلام!
أي عربي رأى مشهد العناق والوله، استنتج بان الحّب من طرف واحد، لأن الحب علاقة متكافئة بين طرفين، وبين أبي مازن وأولمرت لا تكافؤ، فالمحتّل شرس،عدواني، مغرور بقوّته، مخّه مسكون بالأساطير، لا يقبل بغير مسح الفلسطينيين حتى لا يبقى منهم من يذكّره بحقّه، وبأنه سيعود إلى بيته، وسيبني وطنه، ويصحح هذا الغلط التاريخي المفتّعل والباطل. أولمرت يريد أي فلسطيني كراحاب في سفر الخروج، زانية خائنة، تؤمّن على حياتها مقابل خيانتها لأهلها ووطنها!...
تبديد الوهم
أبدأ بمطلع تلك الأنشودة التي أنشدتها حناجر فدائيين رحلوا وكلماتها في أفواههم، وحلوقهم، وقلوبهم:
طالعلك يا عدّوي طالع
من كّل بيت وحارة وشارع
هذه العمليّة، عملية (الوهم المتبدّد)، عملية كرم أبوسالم، محرجة لجيش الدفاع، فأن يحفر (الفدائيون) الفلسطينيون الأرض، وينبعثوا من رحمها، وأن يباغتوا جيش الاحتلال، فإن الأنشودة تتألّق من جديد، وهي تعبّر عن روح شعب، ولا داعي لمزيد من الأوصاف...
فبعد مشهد رئيس السلطة، وبعد خطاب أولمرت، ملأ المشهد الفلسطيني المقاوم الشاشات، مثيراً بكّل المقاييس، فلا الجدار، ولا الحواجز الإلكترونيّة، ولا أجهزة الرّصد الأمريكية الدقيقة، ولا قطع الأموال، ولا الحصار والتجويع، قادرة على أن تطفئ روح المقاومة، وقدرة المقاومين على الابتكار، والمباغتة...
عمليّة نظيفة، دقيقة، استهدفت موقعا عسكريّاً محصناً، لم يسقط فيها مدنيون، ولذا فهي محرجة جدّاً لأكثر من طرف.
الناطق بلسان رئاسة السلطة صرّح: لقد فوجئنا بهذه العمليّة المحرجة، فنحن كنّا في حوار...!
ألا تنّص وثيقة الأسرى على المقاومة بكّل السبيل؟ المقاومة بالسلاح، بقدر المستطاع، هي الخيار الأبرز، فلماذا فوجئتم؟ طبعاً، هم لايريدون عمليات عسكريّة حتى تبقى (حماس) متهمة بأنها تخلّت عن الخيار العسكري!...
المحرجون فضحت عجزهم عملية (الوهم المتبدّد)، كما بددت وهم الاحتلال بأن الفلسطينيين يئسوا بسبب الحصار، والخنق الرسمي العربي، والاغتيالات اليوميّة...
هذه العمليّة العبقريّة الكبيرة، ليست مجرّد إبداع عسكري فقط، إنها ثقافة! نعم ثقافة يا سادة، فهي خطاب سياسي نقيض لثقافة الاستجداء والارتماء في أحضان أولمرت...
الأوسلوون، والفاسدون، والمشغولون بافتعال كل ما يعطّل الحياة الفلسطينيّة، بهدف العودة للتسلط على شعبنا، صدمتهم عملية (الوهم المتبدّد)، تماماً كما صدمت وفاجأت جيش وقادة العدو...
أمّا شعبنا فإنه وهو يلّم أشلاء أبنائه وبناته قد استذكر تلك الأنشودة الفدائيّة، فترحّم على من رحلوا وهم ينشدونها، وبارك من تحبل بهم أرضنا، وتنجبهم في ساعات، فيخرجون من رحمها محاربين ليس بينهم وبين عدوهم سوى النار والحديد...
لشعبنا طريق، ولمن يقبّلون عدونا ويرتمون في حضنه طريق، وطريقانا خطّان لا يلتقيان، ومن يخرج من عمق الأرض مشهراً سلاحه غير من يرتمي على صدر قادة العدو...
■ عن القدس العربي