بين ضغط شعوبها المعادي للحرب.. وتحريض الولايات المتحدة الذي وصل ذروته: أوروبا تنقسم سياسياً
بانتظار ما ستسفر عنه اجتماعات مجلس الأمن الدولي الجديدة، ومع بروز ملامح انقسام أوربي داخلي بتحريض أمريكي واضح بخصوص ما سمي برسالة الدول الأوربية الثماني الداعية للمسارعة إلى مساندة واشنطن بموقفها التصعيدي تجاه العراق، مقابل المساعي الفرنسية الألمانية الداعية لدرء خطر الحرب،
يبدو أن أحزاب اليمين ويسار الوسط الحاكمة في بعض البلدان الأوربية عادت لا لخذل شعوبها مرة أخرى فحسب، بل لتخذل فكرة وجود اتحاد أوربي موحد بوصفه كياناً متكاملاً ومستقلاً عن التبعية المطلقة لواشنطن، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تطورات سابقة في مواقف غالبية الدول الأوربية، وفي ظل غياب أي مبرر حقيقي بيد واشنطن فيما يتعلق بإعلان حربها على العراق، كادت أن تكون الشعرة التي تقصم ظهر هذه التبعية القائمة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تحاول الانفكاك منذ قيام التغييرات العاصفة في ميزان القوى العالمي وغياب الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية سابقاً في تسعينات القرن الماضي، حيث ظهرت محاولات لفك هذه التبعية في أمثلة متتالية منذ ذلك الحين، من بينها على سبيل المثال فصول المسألة اليوغسلافية، الوحدة النقدية الأوربية، الحرب الأمريكية في أفغانستان ضمن ما يسميه البيت الأبيض «الحرب الكونية على الإرهاب».
تنصل بريطاني من المسؤولية..
مصادر رسمية في لندن أعلنت أن مدريد كانت الجهة المبادرة لإطلاق «رسالة الثماني»، غير أن الخارجية المجرية في بودابست أعلنت أن لندن ومدريد كانت وراء هذه الرسالة التي وقعتها بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال والدانمارك وبولندا والمجر والتشيك معلنة فيها وقوفها إلى جانب الولايات المتحدة في تعاملها مع المسألة العراقية رغم الاتساع اليومي في رقعة التظاهرات الشعبية المناهضة لتصاعد الصلف الأمريكي بدءاً من المدن الأمريكية ذاتها وليس انتهاءً بسيدني في استراليا، مروراً بكل عواصم أوربا، ورغم تأكيدات الجمعية البرلمانية لمجلس أوربا، أكبر هيئة تشريعية أوربية تضم 44 بلداً أنه ما من مبرر للجوء إلى القوة العسكرية ضد العراق موضحة في سياق قرار نال 146 صوتاً مقابل سبعة وامتناع أربعة عن التصويت أنها «أخذت علماً وبقلق كبير بإعلان واشنطن استعدادها للتحرك العسكري من جانب واحد حتى في غياب قرار واضح من مجلس الأمن».
البلل الأمريكي يصل أوربا..
باستثناء لندن السائرة تاريخياً خلف ركاب واشنطن، تأتي هذه الخلخلة في المواقف الرسمية الأوربية نتيجة لإعلان البيت الأبيض الأمريكي أن ساعة الحسم مع العراق اقتربت، حيث يبدو أن البل وصل إلى ذقن أوربا في محاولة واشنطن إعادة تقسيم العالم بعد أحداث أيلول الأمريكية وفتح جبهات هذا التقسيم في أفغانستان ومن ثم في العراق في قائمة تبدو مفتوحة منذ أن أعلن جورج بوش مقولته سيئة الصيت «من ليس معنا فهو ضدنا» أي ضد الإدارة الأمريكية.
فبعد التصريحات المتكررة من جانب وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد في مواجهة مواقف باريس وبرلين الرافضة لمبدأ الحرب التلقائية الأمريكية، وحديثه عن وجود أوربا قديمة وأوربا حديثة، وبعد صدور الرسالة المذكورة التي كان جلَّ موقِّعيها من قادة بلدان أوربا الشرقية سابقاً، سارع المزيد من قادة الجزء الشرقي من أوربا لحجز مقاعد لهم خلف قاطرة التهور الأمريكي حيث قال متحدث باسم رئيس وزراء سلوفاكيا إن هذا الأخير عدَّ نفسه تاسع الموقعين على رسالة الثماني، في حين حاولت البرتغال بلسان رئيس وزرائها الدفاع عن موقفها المؤيد لواشنطن زاعمة أنه لا يمكن التزام الحياد في هذه المسائل وإن اتخاذ هذا الموقف يعد «وسيلة للحفاظ على علاقات قوية بين الولايات المتحدة وأوربا»، وذلك في وقت تجدد فيه إيطاليا منح كل التسهيلات العسكرية والدعم السياسي لواشنطن، ويبرز فيه تراجع في مواقف النرويج لصالح واشنطن بالتزامن مع ظهور تطورات ألمانية داخلية تُبرز خسارات في المواقع الانتخابية للمستشار الألماني غيرهارد شرويدر في مقاطعتين ألمانيتين وذلك في توقيت يبدو من الصعب فيه استبعاد أصابع واشنطن عبر اللوبي اليهودي في ألمانيا للضغط على مواقف شرويدر التي تعلن رفضها المضي إلى الحرب حتى تحت مظلة دولية علماً بأن ألمانيا تتولى في الشهر الجاري رئاسة مجلس الأمن الدولي بوصفها عضواً غير دائم فيه.
قمة فرنسية بريطانية
تُبقي الخلافات
وفي هذه الأثناء جاءت القمة الفرنسية البريطانية الخامسة والعشرون في باريس لتُظهر استمرار وجود الخلافات بن لندن وباريس بخصوص دعم واشنطن، حيث حاول رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير الالتفاف على مواقف الرفض الفرنسية المعلنة من خلال تسويق فكرة استصدار قرار ثان من مجلس الأمن لحسم المسألة العراقية سريعاً، أي لإجازة شن الحرب الأنغلو-أمريكية الجديدة على العراق ولكن بغطاء دولي، غير أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان واضحاً في إبراز الخلافات حيث أكد أنه يدعم استمرار عمليات التفتيش وإعطاءها المهل الكافية «للوصول إلى نزع الأسلحة العراقية» ولكن عبر الأمم المتحدة ملوحاً باستخدام بلاده لحق النقض في مجلس الأمن في الوقت المناسب وبحسب تطور الأحداث.
وإذا كان بلير الموصوف بأنه وزير خارجية ثان لواشنطن فشل في حمله رسالة أمريكية واضحة لفرنسا عشية جلسة جديدة لمجلس الأمن مخصصة للعراق فإن تأكيدات شيراك هذه جاءت رسالة مباشرة لواشنطن التي يُنتظر أن يقدم وزير خارجيتها كولن باول معلوماته الاستخباراتية المزعومة حول انتهاك العراق للقرار 1441 وامتلاكه برامج تسليحية محظورة دولياً رغم عدم تمكن فرق التفتيش الدولية من العثور حتى اللحظة على أي دليل يدين بغداد خلافاً لما تشتهيه واشنطن.
النفط العراقي
واحتمالات الموقف الفرنسي
ومع بروز تراجعات إضافية في موقف روسيا بوتين لصالح واشنطن على عكس التأكيدات المتكررة من جانب أقطاب المؤسسة العسكرية الروسية ووزارة الخارجية الروسية الرافضة للحرب الأمريكية يعلق المراقبون الآمال على ثبات الموقف الفرنسي في مجلس الأمن، إذ أن أي انقلاب في هذا الموقف سيعني تسريع المشاريع الأمريكية في حين أن تمسك باريس بموقفها النابع أولاً من الحرص على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة والعالم وهي العضو الدائم في مجلس الأمن قد يشكل رافعة لمواقف كل الدول الرافضة لمنطق الاستعلاء الأمريكي بما فيها حليفتها الألمانية وحتى روسيا والصين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ثبات الأغلبية في مجلس الأمن على مواقفها المعلنة في رفض اتخاذ قرار سريع ثان يتضمن استخدام القوة العسكرية سيشكل صفعة جديدة لسياسة المعايير المزدوجة الأمريكية الفاقدة لكل مسوغاتها المعلنة في المسألة العراقية والتي تخفي جشع واشنطن المكشوف باتجاه نفط العراق الذي سيحتل المرتبة الإنتاجية الأولى في العالم قريباً بحسب تصريحات المسؤولين المعنيين في بغداد.
الكرة في ملعب الشعوب العربية..
ومن المعروف أن لعبة الأمم لا تعرف ثباتاً سياسياً، ومن المفهوم أن مواقف الرفض الفرنسية والألمانية على سبيل المثال إنما تنطلق بشكل طبيعي من الحرص على مصالح البلدين بالدرجة الأولى، ولن تصل في كل الأحوال إلى حد القطيعة مع واشنطن رغم كل التذمر الأوربي من الصلف الأمريكي المتصاعد (فهناك حالياً مساعدات عسكرية ألمانية غير مباشرة لواشنطن والأطلسي في ألمانيا ذاتها وهناك تدريبات مشتركة فرنسية أمريكية في البحر المتوسط تقول باريس وبرلين أن لا علاقة لها بمبادئ رفض الخيار العسكري الأمريكي اتجاه العراق) وعليه فإن هذه المواقف قابلة للتبدل عند أي لحظة حسم أمريكية مقررة بغض النظر عن غطائها بغية إيجاد موطئ قدم فرنسي ألماني أوربي في أي سيناريو إمبريالي أمريكي محتمل مخصص للعراق والمنطقة. ومن هنا يعود السؤال الأساسي ليتعلق بثبات المواقف العربية صاحبة المصلحة المباشرة في رفض مشاريع «سايكس بيكو» الأمريكية الجديدة. وعلى اعتبار أن المواقف الرسمية العربية تريد أن تُظهر لشعوبها أن «لا حول لها ولا قوة» في ظل غياب أي تجسيد فعلي لما يسمى بالتضامن العربي يعود الأمر ليتعلق عملياً بإرادة المقاومة لدى الشعوب العربية تماماً كما هي الحال فعلياً مع بقية شعوب العالم.
■ محرر الشؤون الدولية:
عبادة بوظو
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.