كوريا الشمالية ببرنامجها النووي تتحدى واشنطن إغضاب الاستعمار أسهل من إرضائه!
لا يأتي قرار جمهورية كوريا الديمقراطية المضي ببرنامجها النووي المعلن وطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أراضيها مجرد ضربة في الهواء من بلد خائر القوى، كما تحب واشنطن أن ترى الأمر. بل إنه، وبقليل من التمعن، ورغم أنه غير مضمون النتائج، يشكل اختراقاً كبيراً من جانب «بيونغ يانغ»، التي تعاني حقيقة من جملة من الأزمات، للخروج عن الطوق الأمريكي متعدد الأشكال والمفروض على واحدة من آخر خصوم البيت الأبيض المتبقية مما اصطلح على تسميته بحقبة «الحرب الباردة»، وهو بدوره اختراق متعدد المستويات، توقيتاً ودلالات، تشكل بمجملها «حشراً لساسة البيت الأبيض في الزاوية».
بيونغ يانغ: التوقيت والتحدي
وفي قراءة عند المستوى الأول للقرار الكوري الديمقراطي تقول إن «بيونغ يانغ» اختارت لحظة انشغال واشنطن برفع عقيرة قرعها لطبول الحرب على العراق تحت يافطة «نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية» لتعلن، أي «بيونغ يانغ»، وهي التي تدرك ككل عواصم العالم أن الحرب الأمريكية المزمعة في المنطقة العربية لن تكون نزهة عابرة في تداعياتها، أنها ستمضي ببرنامج أسلحة موازٍ، متحدية في ذلك تصريحات وزير الدفاع الأمريكي وكل تنظيرات واضعي السياسة الاستراتيجية الأمريكية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي القائلة بقدرة واشنطن، التي تملك أكبر ترسانات الأسلحة المحظورة والمحرمة دولياً، على مواجهة خصمين إقليميين في آن معاً. وهو تحد يحمل في طياته الأولى موقفاً يدلل على تمسك «بيونغ يانغ» بكرامتها الوطنية رداً على تصريحات استفزازية من جانب قوة عالمية غاشمة وضع رئيسها المتعجرف جورج بوش «بيونغ يانغ» رغم كل إشارات حسن النوايا التي أطلقتها سابقا،ً في خانة ما أسماه دول «محور الشر» الثلاث: العراق، كورية الديمقراطية، إيران.
مأزق واشنطن
والمفارقة المربكة أمام ساسة البيت الأبيض الآن، وهم الساعون إلى تأجيج الصراعات الإقليمية والداخلية من أجل خدمة مصالحهم الاستراتيجية والبحث عن مخارج عسكرية لمآزقهم وفضائحهم الاقتصادية، هو أنهم مازالوا يتخبطون في بذل كل ما في وسعهم دولياً وإقليمياً لتسويغ ضربة عسكرية للعراق وكسر عزلتهم الدولية في ذلك، رغم تأكيدات العراق المتتالية خلوه من السلاح النووي والكيماوي والبيولوجي، وتعاونه الكامل إلى الآن مع القرار الدولي 1441 الذي سعت واشنطن إلى فرض شروطه المتشددة. وفي هذا الوقت بالذات تخرج «بيونغ يانغ» لتقول، في وقفة عز وإحراج للخصوم، إنها «ليست العراق» ولن تنتظر مصيره بعد استكمال تجريدها من أسلحة الدفاع عن نفسها، ولاسيما بعد تدشين واشنطن لمشروع درعها الصاروخي تحت ذرائع مختلفة ومختلقة متجاهلة كل التحذيرات الدولية التي أحاطت بهذا المشروع الموروث من حقبة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان فيما سمي في حينه بمبادرة الدفاع الاستراتيجي أو حرب النجوم، والتي تؤكد، أي التحذيرات، أن هذا المشروع العالمي الأمريكي الذي يتضمن نشر قواعد إقليمية له لدى حلفاء واشنطن سيفضي إلى سباق دولي جديد على التسلح.
دور القوى الاقليمية
وعلى الرغم من ذلك فإن استدراك كورية الديمقراطية لموقفها واتخاذها وضعية المواجهة المفتوحة مع واشنطن لن يكون سهلاً ولاسيما في ظل الديون الخارجية ومشكلات الفقر وسوء تغذية الأطفال التي تعاني منها وهي مشكلات لن تعينها كثيراً في حال أعيدت بشكل كامل إلى دائرة مقاطعة القوى الإقليمية لها، ومن بينها الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية ذاته، تحت ضغط تحالفات واشنطن في المنطقة.
ولكن من ناحية أخرى ربما كانت بيونغ يانغ تراهن على استياء القوى الإقليمية هذه من تنامي النفوذ الأمريكي في المنطقة والعالم رغم دخول هذه القوى ذاتها في تحالفات كبرى مع واشنطن ما بعد أيلول 2001:
■■ الانتخابات الجديدة في كورية الجنوبية أوصلت إلى سدة الحكم رئيساً يقول إنه سيعزز علاقاته مع «بيونغ يانغ» ويعيد النظر بعلاقاته مع واشنطن. والإعلان الكوري الديمقراطي رغم كونه يشكل تحذيراً مباشراً «لسيؤول»، غداة تشكيل حكومة جديدة فيها، من مغبة المضي في التحالف العضوي مع واشنطن، سيستفز القادة الجدد وقوى اليمين في كورية الجنوبية في بادئ الأمر، كما تجلى فعلاً في التظاهرات المناوئة لكورية الديمقراطية التي شهدتها سيؤول، ولكنه استنفار قابل للاسترخاء لاحقاً تحت ضغط قوى الشارع في كورية الجنوبية التي تتطلع هي الأخرى وفي عملية متراكمة تاريخياً لتوحيد شبه الجزيرة الكورية وللخروج من تحت عباءة أكثر من 100 قاعدة عسكرية أمريكية تضم أكثر من 37 ألف عسكري أمريكي ينتشرون في الشطر الجنوبي ويستفزون مشاعر وكرامة الكوريين الجنوبيين الذين يطالبون برحيلهم.
■■ روسيا التي يقول رئيسها إن كل أشكال المواجهة بما فيها العسكرية مع واشنطن لم تعد ذات جدوى، والتي يؤكد خبراؤها المعنيون في الحقل النووي في رسالة موجهة لواشنطن قبل سواها عدم قدرة بيونغ يانغ على تصنيع السلاح النووي قريباً، لا زال يجمع مؤسستيها السياسية والعسكرية الاستياء من تنامي التهديد الأمريكي للمصالح الأمنية والجيوسياسية الحيوية الروسية والتي كان آخرها، إلى جانب المضي في الحرب على العراق بعد أفغانستان وما تضمنه ذلك من زرع للقواعد العسكرية الأمريكية على تخوم روسيا وفي جورجيا المجاورة، إقرار توسع حلف الأطلسي شرقاً وضمه من بين عدة دول أخرى لأستونيا ولاتفيا وليتوانيا، دول البلطيق الثلاث التي شكل انفصالها أوائل تسعينات القرن الماضي «باكورة» انفراط عقد الاتحاد السوفييتي. ولا يغيبن عن البال هنا توقيع موسكو لاتفاقية مع طهران «ثالث دول محور الشر» بحسب التسمية الأمريكية سيئة الصيت تقضي بتطوير العمل في مفاعل «بوشهر» النووي في إيران، رغم أن الجانبين يؤكدان أن ذلك يغطي استخدامات مدنية وليست عسكرية.
■■ العملاق التجاري والسكاني والعسكري النووي الصيني الذي يجاري البيت الأبيض في التحالفات والاتفاقيات الاقتصادية يمتلك ما ينغص خاصرته أمريكياً هو الآخر، وليس أقل ذلك التحالف العسكري والاقتصادي والسياسي القائم بين واشنطن وتايوان التي تعدها بكين جزيرة منشقة ينبغي أن تعود إلى الوطن الأم، على غرار «هونغ كونغ» و«ماكاو»، ولو بالقوة، وهي تتحسب الآن تحديداً من نشر قواعد إقليمية للدرع الصاروخي الأمريكي في خاصرتها التايوانية، في حين لا تزال واشنطن تعمل على تحييد دور الصين إقليمياً على أساس سياسة «سد الفراغ».
■■ أما اليابان وبعد أن اضطرت لاتخاذ تعديلات دستورية تسمح «لجيش دفاعها» بالمشاركة في عمليات عسكرية خارج الحدود تحت ضغط الابتزاز الأمريكي (أفغانستان، والعراق حالياً) فقد كانت إلى الآن تحاول أن تُقرن ذلك بزيادة وزنها الإقليمي سياسياً وخاصة في قضية المصالحة في شبه الجزيرة الكورية بالذات والدخول على خط واشنطن في هذا المجال بعد أن اعتمد رئيسها بوش منذ وصوله إلى سدة الحكم في البيت الأبيض سياسة القطيعة والتصعيد مع «بيونغ يانغ» مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات اقليمية تطال طوكيو ذاتها.
■■ وبالمثل تجري منعكسات الأمور بالنسبة لبقية القوى الإقليمية في منطقة شرق ووسط آسيا (الهند، باكستان، النمور الآسيوية سابقاً وحتى أندونيسيا) وتشابك لوحة علاقاتها وتوازناتها مع بعضها من جهة، ومع واشنطن من جهة أخرى، ضمن لعبة مواجهة غير معلنة يبدو أن قرار «بيونغ يانغ» الأخير سيشعل فتيلها ليحدث انقلاباً ما في التوازنات الهشة التي تسعى واشنطن لتكريسها ضمن محاولتها المستمرة لتنصيب نفسها دركياً دولياً بلا منازع مستخدمة في ذلك ابشع أشكال الترهيب والترغيب.
تغيير الأمر الواقع الأمريكي
ومن هنا تحديداً تكمن أهمية قرار «بيونغ يانغ» بنسف كل مفاهيم الجبروت الأمريكية، من المعايير المزدوجة إلى الاستعلاء، مروراً بالتنصل من كل الاتفاقات الدولية وإدارة الظهر لها.
وعلى الرغم من أن هذه المواجهة التي قد تنتهي سريعاً بقيام الصواريخ والطائرات الأمريكية بعدوان جديد في شبه الجزيرة الكورية تضرب بموجبه المفاعلات النووية الكورية الديمقراطية في مهدها الجديد ضمن عمليات خاطفة كما سبق للكيان الاسرائيلي أن فعل في بغداد ولكن الأمثولة التي تتطلب الدعم من كل القوى المحبة للسلام الحقيقي في العالم تتمثل في محاولة «بيونغ يانغ» تغيير الأمر الواقع الذي يفرضه اليانكي الأمريكي ومن موقع القوي لا الضعيف (كما سبق لفرنسا أن فعلت عندما قررت امتلاك السلاح النووي في النصف الثاني من القرن الماضي وأصبحت لاعباً يحسب له حساب ما في النادي النووي الدولي كما في مجلس الأمن كونها من الدول الخمس دائمة العضوية فيه)…
ويبدو أن الكرة الآن في ملعب القوى الإقليمية التي ينبغي عليها كما فعلت «بيونغ يانغ» استغلال اللحظة التاريخية المشبعة باستياء عالمي من سياسات التفرد الأمريكية في معركة تتراكم جبهاتها يوماً بعد يوم ليجد العالم نفسه فيها «إما أن يكون أو لا يكون».
محرر الشؤون الدولية:
■ عبادة بوظو
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.