بين استفحال الأزمة الاقتصادية وتنازع الهوية الحضارية الانتخابات التركية تُبرز نجم الأصولية التركية من جديد

بعيداً عن إشكاليات إبعاد زعيمه رجب أوردوغان عن قيادة الحكومة المرتقبة بقوام حزبه وحيداً دون الحاجة إلى أي ائتلاف، يأتي صعود حزب العدالة والتنمية «الإسلامي المعتدل» وفوزه بالانتخابات التشريعية التركية بغالبية مقاعد البرلمان في تركيا تجلياً جديداً لمظاهر الأزمة التركية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وليوجه رسالة متعددة المستويات في داخل تركيا وخارجها عن مدى تجذر هذه الأزمة ولاسيما لجهة قانونية «الضغط والانفجار» وتنازع الهوية التركية بين الارتباط بالغرب الأمريكي أو بأحد الامتدادين الأوربي والإسلامي.

وبعيداً عن حقيقة تقول إن الفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية أطاح بالأحزاب التركية الكبرى التقليدية ولاسيما حزب اليسار الديمقراطي بزعامة رئيس الوزراء المستقيل بولند أجاويد الذي لم يكسب سوى 1% من أصوات الناخبين فإن هذا الفوز يأتي أساسا ً فيما يبدو من جملة الضغوط التي مارستها الحكومات التركية المتعاقبة بالتنسيق مع المؤسسة العسكرية التركية المرتبطة بواشنطن وتل أبيب على الأحزاب ذات التوجه الإسلامي منذ سنوات عديدة بدءاً من تنحية حكومة نجم الدين أربكان وحزبه الرفاه الإسلامي في عام 1997 والذي اضطر لتغيير اسمه بعد حظره إلى حزب الفضيلة لاحقاً.

ولكن يبدو أن جملة التحولات التي تشهدها تركيا وخاصة ما يسمى بعملية التحول والإصلاح الديمقراطي تكيفاً مع شروط العضوية الأوربية لم تعد تسمح كثيراً للمؤسسة العسكرية التركية بالتدخل السافر وتصنيع أي عملية انتخابية يفترض فيها أن تكون ديمقراطية وحرة وهو ما يثير استياء طغمة اعتادت تفصيل الحياة السياسية التركية بحسب مصالحها.

ويبدو واضحاً أن صعود الأصولية الإسلامية في تركيا من جديد ولو تحت مسميات تقول بالاعتدال يدلل على عمق الأزمة التركية التي تجلت اجتماعياً بمنح الناخبين الأتراك غالبية أصواتهم للأحزاب اليمينية واليسارية على حد سواء حيث حصل حزب الشعب الجمهوري (اشتراكي ديمقراطي) على المركز الثاني في نتائج الانتخابات.

وبينما لم يدرك القائمون على المؤسستين السياسية والعسكرية التركية أن المحاولات المستمرة لتغييب الأحزاب والقوى السياسية المناوئة قسرياً ستؤدي إلى صعود نجمها فإن صعود هذه الأحزاب ما هو إلا شكل من سداد فواتير ارتهان هاتين المؤسستين اقتصادياً للمؤسسات المالية الدولية وقروضها التي فاقمت من معالم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التركية بطالةً وتضخماً وديوناً خارجية ثقيلة بمليارات الدولارات.

وإذا كان التقاء نجاح اليمين واليسار معاً في نتائج الانتخابات التشريعية التركية يشكل مفارقة أخرى في الأزمة فإن هذه النتائج تأتي أيضاً ردة فعل شعبية تدلل على مدى استياء القواعد الانتخابية التركية من جملة العلاقات والتحالفات التي تربط أنقرة بكل من واشنطن وتل أبيب ولاسيما على خلفية سياسات التصعيد التي يعتمدها هذان المركزان في الجوار الإقليمي لتركيا، فإذا كان التصعيد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة يمس مشاعر المسلمين في تركيا ودعاة الانفتاح على العالمين العربي والإسلامي فإن التصعيد الأمريكي المدعوم من تل أبيب ولندن ضد العراق يمس تركيا بالصميم.

واللافت هنا أنه وبينما كان مسؤولو حزب العدالة يحتفلون بفوزهم في أنقرة والمدن التركية كان رئيس هيئة أركان الجيش التركي يزور واشنطن ويصرح من هناك أنه يحترم إرادة الناخبين التي أوصلت حزباً إسلامياً إلى سدة الحكم. وهنا أيضاً يبدو أن واشنطن أرادت التأكيد من خلال استقبالها الجنرال حلمي أوزكوك أنها تتابع الشؤون السياسية التي تشهدها حليفتها في الأطلسي عن كثب في حين تبدو الإشارة التي أرسلها أوزكوك لحزب العدالة تتفاوت بين طمأنة الحزب من أن الجيش لن يتدخل للتأثير على نتائج الانتخابات وتحذيره في الوقت ذاته من مغبة أي محاولة للتأثير على النظام التركي الذي يعتمد العلمانية السياسية، ناهيك عن التحذير من محاولة المساس بالعلاقة الاستراتيجية التي تربط أنقرة بواشنطن رغم معارضة تركيا جيشاً وحكومة سابقة لواشنطن علناً في شأن العمل العسكري الأمريكي المرتقب ضد بغداد ولكن ذلك يعود للمخاوف الأمنية التركية المذكورة آنفاً لا أكثر، إذ أن المقاتلات الأمريكية التي تقصف المنشآت والمواقع العراقية فوق ما يسمى بمناطق حظر الطيران العراقي وغيرها في جنوب البلاد وشماله لا تزال تنطلق من القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في تركيا والتي تصلها تعزيزات جديدة تمهيداً فيما يبدو لتنسيق الضربة الأمريكية للعراق بعد تحضير أفضل ترتيبات لاحتواء آثارها على تركيا.

 

وبانتظار إعلان اسم زعيم حكومته من قوام حزبه مع تشكيلة هذه الحكومة يبدو أن أوردوغان الذي يدرك تشابك اللوحة التركية أمامه أراد غداة فوز حزبه طمأنة جميع الأطراف دفعة واحدة، حيث قال أنه سيعمل على إعطاء دفعة جديدة لانضمام بلاده إلى الاتحاد الأوربي وعارض ضرب العراق على أن يدرس الأمور في وقتها وضمن نصابها كما أكد أنه يريد أن تكون بلاده بوابة أوربا على العالم الإسلامي دون أن ينسى تأكيده انه سيركز على المشكلات الاقتصادية المركبة التي تعاني منها تركيا وأنه لن يمس بنظامها العلماني، ولكن هذا التشابك بحد ذاته يضع أمام حزب العدالة وحكومته المرتقبة إرثاً ثقيلاً خلّفه من كان يسمى برجل أوربا المريض بولند أجاويد ليدفع البلاد من جديد نحو محاولتها تحديد هويتها الحضارية وحسم تنازعها المذكور أعلاه دون أن يعني ذلك الانغلاق على الآخرين…