وفاة ميلوسيفيتش والعدالة الناقصة بكل المقاييس...

 بين السكتة القلبية والتسمم والتسميم والانتحار تباينت الروايات حول أسباب وفاة الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش الذي عثر عليه ميتاً داخل زنزانته في محكمة العدل الدولية في لاهاي في الحادي عشر من الشهر الجاري.

وفجر الجدل حول وفاة ميلوسوفيتش قول محاميه زدينكو تومانوفيتش في لاهاي إن الرئيس اليوغسلافي السابق كتب في رسالة إلى السفارة الروسية عشية العثور على جثته، "يريدون تسميمي".

تصفية أم هروب

من جهتها أعلنت ميريانا ماركوفيتش زوجة ميلوسوفيتش أن زوجها كان في الفترة الأخيرة منهكاً للغاية، لكنها اعتبرت أن عوامل أخرى قد أدت إلى الوفاة، بما فيها عدم سماح المحكمة له بتلقي العلاج واستعادة عافيته، موضحة أن هذه المحكمة هي التي قتلت زوجها لعدم توافر الأسس لديها لإدانته وعدم قدرتها على الإفراج عنه، وقالت إن ما حصل هو "تصفية جسدية مخطط لها".

في المقابل أعربت مدعية محكمة الجزاء الدولية ليوغسلافيا السابقة كارلا ديل بونتي عن "أسفها الشديد" لوفاة ميلوسيفيتش، قائلة إن محاكمته كان متوقعا أن تنتهي خلال الصيف المقبل. كما اعتبرت أن موت الزعيم الصربي "مؤسف بالنسبة للشهود وكل الناجين وكل الضحايا الذين كانوا ينتظرون العدالة"، وأنه ربما فضل الانتحار هرباً من احتمال الحكم عليه بالسجن مدى الحياة بشأن 66 تهمة وجهت له تتعلق بالإبادة الجماعية، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب في إطار لائحة اتهامات معقدة. وهذه التهم تغطي جانباً واحداً من الصراع الدموي الذي دار في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو مع تفكيك الاتحاد اليوغوسلافي في تسعينيات القرن الماضي على وقع التحريض والنزاع بين المصالح الأمريكية والأوروبية، وتحديداً الألمانية، آنذاك، مع سعي واشنطن لتقديم مفهومها الخاص حول حريتها في انتهاك السيادة الوطنية للدول والذي اعتمد مقياساً لاحقاً في شن مختلف حروب السيطرة الأمريكية تحت يافطات براقة مختلفة تتناقض بين ما تعلنه وما تضمره.

أرضية تاريخية

وكانت "محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة" أصدرت يوم 27 أيار 1999 قراراً يتهم ميلوسيفيتش بصفته رئيس يوغسلافيا الاتحادية وأربعة آخرين من كبار قيادات حكومته وجيشه، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وانتهاك قوانين الحرب بشأن المدنيين في كرواتيا والبوسنة بين العامين 1992 و1995 وفي إقليم كوسوفو الواقع بيوغسلافيا السابقة والذي تقطنه أغلبية ألبانية.

وقد أصدرت المحكمة أمرا وجهته إلى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وكذلك إلى قوات الناتو في كوسوفو وصربيا، يقضي باعتقال المتهمين من أجل مثولهم «أمام العدالة» حيث نقل ميلوسوفيتش من بلغراد في طائرة صربية إلى قاعدة أميركية في توزلا بالبوسنة، قبل أن تحمله إلى هولندا طائرة عسكرية بريطانية..

ووصل الرئيس اليوغسلافي السابق يوم 8 حزيران 2001 إلى سجن في لاهاي حيث حضر جلسات عدة من محاكمته التي أصر أن يدافع بها عن نفسه دون محام مؤكداً أنه «كان ضحية صفقة قذرة لقاء دفاعه عن السيادة الوطنية لبلاده واستقلالها ووحدتها الوطنية في وجه العدوان والتدخل الأطلسي الأمريكي السافر في شؤونها الداخلية».

مليار دولار ثمن تسليم ميلوسيفيتش

وفيما هلل العديد من قادة الغرب بسماعهم آنذاك نبأ تسلم محكمة العدل الدولية في لاهاي لميلوسيفيتش، قوبلت هذه الخطوة / السابقة بمواقف مغايرة، معظمها من الشرق، كان أقلها الاستغراب وأشدها مظاهرات صاخبة أدانت مبدأ الكيل بمكيالين واختلال ميزان العدالة في عالم القطب الواحد.

مجرمون.. طلقاء

وقد تساءلت مصادر عدة كيف يبقى الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان ووزيرا خارجيته ودفاعه طلقاء دون أن تطالهم يد العدالة الدولية المفترضة على ما ارتكبوه من مجازر ضد الأبرياء إبان الغارات الأمريكية على مدينة سرت الليبية عام 1986؟ ولماذا لا يحاكم رئيس وزراء إسرائيل شارون ووزير خارجيته بيريز وهما مدانان بالإبادة الجماعية ضد فلسطينيي صبرا وشاتيلا ولبنانيي قانا ومع ما كان يجري وما يزال من عدوان إسرائيلي بربري على الشعب الفلسطيني فوق أرضه المحتلة، حيث أفلت مجرم الحرب شارون من المثول أمام القضاء البلجيكي بحجة وجوده على رأس عمله واضطلاعه بمهام مسؤولة في الحكومة الإسرائيلية.

سوق النخاسة الأمريكي

وفيما أكدت أن بيع ميلوسيفيتش، «ما هو سوى عملية بيع وشراء في سوق النخاسة مقابل مليار دولار»، أضافت المصادر الرافضة آنذاك «إن تسليم ميلوسيفيتش دليل على الاستهتار بالعدالة في يوغسلافيا، ودليل على انهيار النظام القضائي وتراجع دولة القانون فيها. فقرار تسليم ميلوسوفيتش جاء مناقضاً لقرار المحكمة الدستورية المعارض لمرسوم الحكومة القاضي بتسليم رئيس البلاد السابق إلى محكمة لاهاي بتهمة مجرم حرب».

وكان ميلوسيفيتش تحدث في مقابلة صحفية في بلغراد قبيل اعتقاله عن رأيه في «العولمة»، مؤكداً أنها استعمار جديد: 

«العولمة هي في جوهرها استعمار بشكل جديد، لا تقوم به دول بحد ذاتها، وإنما مجموعة من الشركات ما فوق القومية، ويجري فرض العولمة على العالم من أجل مصلحة هذه المجموعة من الكواسر الذين يتعطشون إلى إعادة تقسيم العالم. وفي هذه العملية ليس هنالك مكان لشعوب أوروبة، الشرقية وخاصة السلافية منها، وكذلك لشعوب أسيا وإفريقيا. لقد تصرفوا بشكل عنيف مع يوغسلافيا لأننا قاومناهم وبشكل ناجح. تذكروا التاريخ، لقد انهار النظام الاستعماري بسرعة كبيرة بعدما تحررت أول مستعمرة .. إنهم يريدون عبر رئيس يوغسلافيا أن يظهروا للعالم ما هو مصير كل من يقاومهم، وهم يطالبون بتسليمي لمحكمة لاهاي لأنني أول رئيس لم يحن رأسه وقاد نضال شعبه من أجل الحفاظ على الاستقلال والسيادة الوطنية».

 

أما خلال الجلسات الأولى من محاكمته، وبينما قدم صوراً تظهر مجازر جماعية ارتكبتها القوات الأطلسية بحق الصرب، اتهم ميلوسيفيتش الولايات المتحدة والرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون بالاعتداء على الصين من خلال توجيه ضربة متعمدة لسفارتها في بلغراد ضمن لعبة مصالح دولية قذرة في حين اتهم ألمانيا على وجه التحديد بلعب «دور اقتصادي وسياسي وعسكري قذر في الأزمة اليوغسلافية من خلال تفتيت وحدة الكيان اليوغسلافي ودعم انفصال ما صار يعرف بكرواتيا وصربيا مع تجميع الألبان من كل أنحاء العالم لتأجيج الأزمة اليوغسلافية الثانية»…