الأزمة الدانمركية بين الدين والسياسة

بدأت الأزمة الدانمركية في سبتمبر الماضي بكاريكاتير ساخر نشره الرسام إدجار كوك فولد في صحيفة "يولاند بوستن" صور فيه النبي (ص) داعية للإرهاب على رأسه عمامة في شكل  قنبلة، مع رسم آخر للنبي (ص) واقفا عند أبواب الجنة قائلاً إنه لم تعد هناك من العذارى ما يكفي «للانتحاريين»! 

وبداية فإن الرسوم الدانمركية عمل سياسي في المقام الأول يحتاج إلي رد سياسي أكثر مما هو بحاجة إلى ردٍ ديني . والرسالة الوحيدة لتلك الرسوم هي المساهمة في ترويج فكرة سياسية تقول بوجود "الإرهاب الإسلامي"، وهي الفكرة التي يحاولون بها منذ زمن تشويه كل مقاومة تتصدى للاحتلال الأمريكي الإسرائيلي في فلسطين والعراق (حيث توجد للدانمرك قوة عسكرية مشاركة)، ولبنان، وبلدان أخرى، ولا أعتقد أن القصد الأساسي كان السخرية من الدين أو الرسول، بل تشويه مبدأ مقاومة الاحتلال، وتحقير الفدائيين الباذلين أرواحهم من أجل بلادهم بتصويرهم كأنهم مجرد انتحاريين باحثين عن عذارى في عالم آخر. لكن رد الفعل عندنا كان دينياً، وليس سياسياً، وهكذا ساهمنا نحن في تعميق الحفرة التي حفروها لنا حين جعلوا الأمر كأنه معركة بين الأديان. والاستعمار هو وحده المستفيد الأول والأخير من طرح قضية الاحتلال والتحرر بوصفها صراعا بين الأديان.

وإذا كانت القضية قضية سياسية في الأساس، فهل يعني ذلك أن نقبل بالإساءة إلى الأنبياء سواء أكان الرسول (ص) أو السيد المسيح؟ وهل يندرج نشر تلك الرسوم  في حرية التعبير حقاً؟ في الحقيقة أن حرية التعبير لم تكن أبداً مفهوماً معلقاً في فراغ، بعيداً عن الاعتبارات المحددة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية. ولا أعتقد أن الحكومة الدانمركية الحريصة على حرية التعبير ستقبل بنشر صور عارية أو جنسية لوالدة فخامة الملكة مارجريت التي تفضلت فتحدثت عن "الإسلام المتطرف"، فالحكومة قبل غيرها تعلم تمام العلم أن هناك "حدوداً" لا ينبغي تجاوزها! وهي مستعدة للتكشير عن أنيابها الديمقراطية إذا تطاول أحد على والدة فخامة الملكة برسم إباحي. 

 لا يمكن لمواطن مصري أن يقبل بالإساءة إلى الأنبياء، أو العقائد الدينية. هذا أمر مفروغ منه . لكن تحويل المعارك السياسية إلى معارك دينية أمر آخر، بحاجة إلى نقاش، لأن معنى ذلك أنهم قد نجحوا في خداعنا، وصرف أنظارنا عن طبيعة الصراع الفعلية. وقد سحبت السعودية وسورية سفيريهما، وأغلقت ليبيا سفارتها، وأدان وزارء الخارجية العرب حكومة الدانمرك، واحتجت جهات عربية أخرى على ما جرى، فلماذا لم نشهد مثل هذه الإجراءات مع استمرار احتلال العراق؟ وعلى العكس من ذلك نحن نرى كيف تبذل كل الحكومات العربية جهوداً مستميتة لفتح سفاراتها في بغداد تحت مظلة الاحتلال الأمريكي لمباركة ذلك الاحتلال وإضفاء الشرعية عليه؟ ولماذا تظهر الحكومات العربية غيرة دينية غير مسبوقة وهي التي تقف صامتة إزاء المساعي المستمرة لتهويد المسجد الأقصى والتنقيب تحته عن هيكل سليمان المزعوم؟! ولماذا تواصل تلك الحكومات التعاون بكل أشكاله مع إسرائيل التي تغتصب أرض فلسطين على مرأى من الجميع؟ حين أعادت صحيفة "دي فيلت" الألمانية نشر الرسوم على صدر صفحتها الأولى كان تعليقها: "كان بالإمكان أن تؤخذ الاحتجاجات في العالم الإسلامي على محمل الجد، لو أنه لم يكن بها شيء من النفاق". والحق أن الصحيفة تشير ولو من دون قصد إلي جوهر المسألة، أي إلى التناول الديني لموضوع سياسي، الأمر الذي جعلنا نصب كل جهودنا على مقاطعة البضائع الدانمركية، مغفلين تماما مقاطعة البضائع الأمريكية، بل والإسرائيلية التي أغرقت أسواقنا المحلية، علماً بأن أمريكا وإسرائيل هما المستفيد الأول من إضفاء الطابع الديني على قضية سياسية (..) كما حاولا من قبل التمويه على تلك الدوافع بالحديث عن العدو "الشيوعي".

ومن الطبيعي أن تختلط الأقدام والأهداف في الملعب حين تتحول القضية السياسية إلي موضوع ديني، يمكن له أن ينتهي بسلام مع اعتذار رسمي من الدانمرك. لكن أحدا خلال ذلك لم يفكر في مطالبة الدانمرك بسحب قواتها التي تشارك بها في احتلال العراق! الاحتلال إذن على عيني ورأسي، أما إهانة مقدساتنا، فأمر مرفوض! تفضلوا واستبيحوا ثرواتنا، وأراضينا، وحدودنا، وأغرقوا أسواقنا بالكوكاكولا، والماكدونالدز، وسنرسل بدرونا الغاز والأسمنت لإسرائيل، لكننا لن نسمح لأحد بإهانة مقدساتنا!

رحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حين كتب : «ويا وطني لقيتك بعد يأس  

كأني لقيت بك الشـبـابــا»

■ أحمد الخميسي

 

 كاتب مصري