هل يُفرض الاعتراف بإسرائيل بعد القرار 1680
صحيح أن الخط الفاصل بين ما هو اختصاص أو اهتمام دولي وما يعد داخلياً خطاً متغيراً ويتجه باستمرار صوب الداخل ليوسع الاختصاص الدولي ويضيق الاختصاص الداخلي، وصحيح أن تداعيات العولمة خفّضت أسوار السيادة الوطنية وأن الاندماج الأوروبي أنشأ منظمات «فوق وطنية» إلا أن الدول الكبرى تقود اتجاهاً لتفريغ سيادة الدول الصغيرة، والقضاء على فكرة الإرادة الخالصة للدولة وسلامتها من العيوب.
من مبادئ القانون الدولي أن الدولة تقبل الالتزام الدولي بإرادتها وتنضم إلى المعاهدات الدولية بإرادتها، فإن شاب رضاها شائب جاز لها أن تبطل المعاهدات وتسقط الالتزام على تفصيل تكفلت به أحكام اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969. وقد لوحظ أن مجلس الأمن، خصوصاً في الأزمة السورية - اللبنانية، أصدر عدداً من القرارات التي صادرت السيادة اللبنانية والسورية - وأولها القرار 1559 - وطالبت سورية بالانسحاب من لبنان من دون طلب من لبنان نفسه، كما فرض الأمين العام ممثله الخاص للإشراف على تنفيذ القرار وحل التنظيمات المسلحة داخل لبنان، وهي لا تزال شؤوناً داخلية مهما توسع الاهتمام الدولي بها. أما بقية قرارات المجلس التي أصدرها عقب مقتل الرئيس رفيق الحريري فهي معروفة وتتعلق بسلطات لجنة التحقيق الدولية التي تصل إلى درجة وضع البلدين تحت وصاية اللجنة. وأصبح مفهوماً أن مجلس الأمن ينحرف بشدة عن أحكام الميثاق، لكن صدور قراراته بالإجماع دفع المتخصصين إلى الاعتقاد بأن السلوك الدولي للدول الرئيسية في النظام الدولي يعتبر في أحسن الفروض تفسيراً لأحكام الميثاق حتى يظل الربط قائماً بين النصوص والسلوك، إذا لم يكن هذا السلوك تعديلاً لأحكام الميثاق، أو إذا تم بطريقة تخالف طريقة التعديل التي نص عليها الميثاق.
وقد خطا مجلس الأمن خطوة أكبر فى مجال انتهاك سيادة سورية ولبنان والاستهانة بهما عندما طالب الدولتين بإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما وبترسيم حدودهما. وإذا كان القرار 1680 الصادر في 17/5/2006 خفف عبارته في الفقرة الرابعة العاملة فنصّ على أنه «يشجع بشدة» سورية على استجابة طلب لبنان الذي يتمشى مع نتائج الحوار الوطني اللبناني بشأن ترسيم الحدود وإقامة تمثيل دبلوماسي وعلاقات كاملة. واستدرك القرار في هذه الفقرة بقوله إن إقامة العلاقات وإنشاء البعثات أمر يحدث بالاتفاق، وذلك كي يضفي صفة الفرد على الدولتين في مسألة تتعلق بالسيادة. لكن القرار لم يتمكن من التخفيف من حقيقة أن سورية قد لا ترغب في استجابة المطلبين، أو في استجابتهما تحت رقابة وتعليمات مجلس الأمن ليظل الخيار لها دائماً.
الهدف من القرار يدخل في إطار سعي فرنسا والولايات المتحدة إلى الضغط على سورية، استمراراً للخط الذي بدأ مع القرار 1559 وتحقيق الفصل الكامل بين سورية ولبنان. هذا الهدف كان دائماً إسرائيلياً، لكنه أصبح أيضاً هدفاً لبعض القوى اللبنانية التي تسعى إلى فصم العلاقة بين سورية ولبنان. وإذا كان اللبنانيون جميعاً حريصين على سيادة بلدهم وعدم تدخل أحد حتى لو كانت سورية الشقيقة في شؤونهم، فلا أظن أن هدف الاستقلال يختلط لديهم بشبهة أخرى وهي فصم العلاقة بين البلدين. وقد يبدو هدف تحقيق استقلال لبنان وعدم عودة السيطرة السورية عليه أمراً مقبولاً كي يسعى البلدان إلى إعادة صوغ علاقاتهما السياسية بما يتفق مع مصالحهما، لكن السعي إلى عزل سورية وتكريس الانفصام بين البلدين خلافاً لما يعلنه القرار، فسيظل موضع شك وريبة، ما لم تتم إشاعة أجواء الثقة بين البلدين.
وكما أشرنا، فإن إقامة العلاقات الدبلوماسية وترسيم الحدود يمكن أن يكونا عاديين مع دول في ظروف عادية لولا أن موقف مجلس الأمن بات جزءاً من رؤية عامة بدأت بالقرار 1559، كما أن لهجة القرار تشير إلى أن هناك إملاء على البلدين، وكأن عدم إقامة العلاقات وترسيم الحدود يعرض السلم والأمن الدوليين للخطر.
من الواضح أن فرض إنشاء علاقات دبلوماسية وترسيم الحدود، حتى لو كان في صورة التشجيع والنصيحة، قد أثار ريبة سورية التي لا ترى الظروف مناسبة وتنظر بالشك إلى نيات مجلس الأمن، كما أنها ترى أن هذه الطريقة لن تساعد على تحسين العلاقات بين البلدين، ما دام لبنان الذي تحكمه قوى المعارضة لسورية يستقوي بمجلس الأمن. على الجانب الآخر ينظر فريق المعارضة في لبنان إلى أن طلب إنشاء العلاقات وترسيم الحدود هو اختبار لمدى جدية سورية في التعامل مع لبنان على قدم المساواة.
أما من الناحية العملية، فنحن نرى أن إملاء مجلس الأمن لإقامة العلاقات الدبلوماسية يناقض أحكام اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 والتي تجعل قرار إنشاء العلاقات الدبلوماسية قراراً سيادياً خالصاً. ذلك أن الثابت في القانون الدولي هو أن الدولة قد ترغم على قطع العلاقات الدبلوماسية إذا صدر القرار من منظمة دولية عالمية أو إقليمية كجزاء على الدولة التي تقطع العلاقات، لكن الدولة لا ترغم مطلقاً على إنشاء علاقات دبلوماسية مع غيرها. ويترتب على موقف مجلس الأمن- إن تقرر- أن يتناقض قراره مع اتفاقية فيينا مما يجعل القرار طعيناً من الناحية القانونية، لأن الاتفاقية تسمو على قرار المجلس في مجال ترتيب مصادر الالتزام الدولي في نظرنا على الأقل.
ولا شك أن مناقشة مجلس الأمن لهذه القضية ترسل رسائل متعددة خارج إطار الرسالة الأصلية وهي تكريس تجزئة البلدين على غير المألوف في سياق العلاقات الخاصة اللبنانية - السورية، وهو أمر ترحب به المعارضة كما أشرنا. ومن بين هذه الرسائل أن مجلس الأمن يريد أن يرسي سابقة خطيرة، وهي إلغاء حق الدولة في إنشاء العلاقات الدبلوماسية والبعثات الدبلوماسية، وهو حق يتمتع حتى الآن بالطابع السيادي. ومؤدى ما تقدم أن مجلس الأمن سيصدر بعد ذلك قراراً بإلزام الدول العربية بالاعتراف بإسرائيل وإقامة العلاقات الدبلوماسية معها، وهذا هو مضمون السلام الذي اشتملت عليه الصيغة الشهيرة لقرار مجلس الأمن الرقم 242. ومعلوم أنه وفقاً لهذه الصيغة فإن إسرائيل تلتزم رد الأراضي المحتلة إلى أصحابها، ولذلك فإن اتجاه مجلس الأمن يهدف إلى أن تحتفظ إسرائيل بالأرض، وأن تحصل في الوقت نفسه على الاعتراف والعلاقات من العالم العربي من دون مقابل في مجال الحقوق الفلسطينية. ويبدو أن هذا الاتجاه من جانب مجلس الأمن قد تم التمهيد له منذ القمة العربية في الجزائر عام 2005 بإشاعة فكرة الفصل بين العلاقات العربية - الإسرائيلية، ومدى التقدم في القضية الفلسطينية.
أصدر مجلس الأمن القرار 1680 في ضوء مناقشته لتقرير تييري رود لارسن الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المكلف بمتابعة تنفيذ القرار 1559. وسبق أن أشرنا إلى ضرورة قراءة القرار 1680 في ضوء سلسلة القرارات التي بدأت بالقرار 1559 والذي قدم على أنه يهدف إلى إزالة كل معوقات ممارسة لبنان لسيادته على أرضه، وهو ما أشارت إليه ديباجة القرار 1680 من سلسلة القرارات التي تؤكد هذا المعنى.