ديك تشيني.. وهوس التخندق في ذهنية التبرير
هناك في ذلك الحصن المنيع، الذي ازداد سعة ومناعة الآن، وبعد انتقاله إلى ما كان يعرف سابقاً بالجناح الغربي من البيت الأبيض، يجلس نائب الرئيس ديك تشيني.. يهمهم ويدمدم وحده! وحذار أن تظن أنه يتحدث إلى الصور المعلقة على الجدران، مثلما كان يفعل الرئيس نيكسون لحظة انكساره الأخير. ذلك أن ديك تشيني يعتقد أن للجدران آذاناً تلتقط وتسمع دبيب النمل في الأرض. فهو يختلي إلى الرجل الوحيد الذي يثق به في مدينة البلهاء والجبناء والمتآمرين.
وما ذلك الرجل سوى ديك تشيني نفسه. ومن فرط حنقه وغضبه على بعض التقارير الإخبارية التي راجت مؤخراً عن أداء الإدارة الأمريكية في العراق، فقد صدرت عنه كلمات احتجاج عنيفة، اهتزت لقوتها صورة أحمد الجلبي المعلقة على جدران المكتب إلى جوار صورة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل، خاصة وأنه درج على إطلاق اسم «ونستون جلبي» على أحمد الجلبي!
كما أبدى ديك تشيني ضيقه وتبرمه بنبرة الانتقادات والتململ السارية الآن بين ردهات وأروقة البيت الأبيض. وفي منظوره الشخصي، فإن كانت ثمة سلبية واحدة في تلك الأروقة، فهي حتماً تعود إليه وليس لأي شخص آخر غيره، لكونه الوحيد الذي يحق له أن يتبرم ويضيق ويتآمر. ومما طرق أذني تشيني ما نشره توم دوفرانك كاتب صحيفة نيويورك تايمز، عن شعور كبار مساعدي ومعاوني الرئيس بوش في البيت الأبيض، أنه قد حانت اللحظة التي تعين فيها على الرئيس نفسه الإمساك بزمام القيادة، إن كان له أن ينقذ رئاسته من شفا الهاوية التي تنحدر إليها. ورداً على تلك الأخبار، قال تشيني مستهزئاً ومستصغراً الأمر «دعه يحاول.. فالأمور لم تبلغ من السوء ذلك الحد بعد»، ثم مضى مستطرداً في الحديث إلى نفسه «ولنفترض أنه استطاع أن يشد الزمام إلى ناحيته في نهاية المطاف.. ألست أنا من بيده الزمام ويمسك به؟». وعليه فإن كل المطلوب من الرئيس هو أن ينسى كل تلك الترهات الصادرة عن أرقام وإحصاءات قياس الرأي العام، وأن يعيد المنتقدين إلى حظيرة تأييد الخطة الأولى والرئيسية لشن الحرب على العراق.
وحتى الآن فإن كل الأمور تسير على ما يرام وكما أُريد لها أن تكون بموجب تلك الخطة. فها هو مشروع التعذيب الدولي يحقق تقدماً ونجاحاً باهراً، أثار شماتة النقاد والحساد والمغرضين. أما التعاقدات والامتيازات والصفقات الممنوحة لشركة «هاليبيرتون» فهي تدر المال والعسل. ثم خطة خفض الضرائب ورفع ثقلها وعبئها عن كاهل الأغنياء والموسرين. فهل ثمة شيء أفضل منها؟ وهل من مستفيد من ثمراتها أكثر من شركات النفط؟! أما المحاكم الأمريكية فلم تقصر هي الأخرى في تأييد سياسات تشيني الخاصة بالطاقة، بينما لا تزال أكذوبة علاقة صدام حسين وتحمله المسؤولية عن هجمات الحادي عشر من أيلول، تنطلي على كثير من الأمريكيين. ولا يزال هؤلاء يصدقون قولنا إن علينا أن نحاربهم في عقر دارهم، قبل أن نضطر إلى مواجهتهم هنا في عقر دارنا. فماذا يريد النقاد والحساد والشامتون أفضل من هذا!؟
وإذ يسمع تشيني بما يُقال ويُكتب عن «تطويب» عضو الكونغرس غريب الأطوار جون مورتا، بطلاً قومياً للولايات المتحدة هذه الأيام، إنما يستشيط غضباً وحنقاً، لعلمه أن هناك من كبار جنرالات البنتاغون من حرض مورتا على الجهر بدعوته الخرقاء السافرة لتعجيل الانسحاب الأمريكي من العراق. فهل انكسرت شوكة الجنود يا ترى؟ وهل شرعت طبولهم تدق أصوات الخيبة والهزيمة والانكسار، بدلاً من أن تعلي أصوات الحرب والثبات والنزال؟ وكيف لـجون مورتا أن يعزز كل ذلك التأكيد حول تزوير تشيني للمعلومات والمبررات الدافعة إلى شن الحرب؟ تلك هي شيمة الجبناء الرعاديد الذين اعتادوا الفرار دائماً من ساحة الحرب. وغالباً ما تبدأ خطوات الفرار هذه، بالغمز واللمز حول الحرب، ثم الهمهمة وارتفاع الشكوى تدريجياً حول أمور تافهة بسيطة، مثل نقص عدد المصفحات والمدرعات الكافية للجنود المقاتلين. ثم تعقبها شكوى أخرى عن نقص الجنود أنفسهم، لتصل إلى أمور لا معنى لها في ساحات الحروب والنزال، كاستخدام الأسلحة والمواد الحارقة مثل الفسفور الأبيض، في مدينة الفلوجة وغيرها من ترهات وتفاهات. وإلى ذلك أضف ما شاع من قيل ولغط فارغ عن التعذيب.
ولكن لا شيء يثير حنق تشيني وغضبه أكثر من مطالبة كافة الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ، بإعلان جدول زمني واضح لبدء الانسحاب من العراق· فهل يحدث كل ذلك لمجرد أن نسبة تأييد الأمريكيين لبوش الابن قد انخفضت إلى ما دون 30 في المئة؟ فالأرقام والإحصاءات قد اخترعت أصلاً لتهز قلوب النساء وليس الرجال والأبطال الصناديد من أمثال تشيني! ثم ماذا تعني دعوة الديمقراطيين من أمثال هاري رايد ومن لف لفه، إلى التحقيق مع مسؤولي البيت الأبيض؟ ألا يعلم هؤلاء، أن الرجال من طينة تشيني المصنوعين من الفولاذ، لا يخشون الكذب مطلقاً، وأنهم من شدة احترافهم وتمرسهم على الكذب، لا يخشون فبركة الأسباب والمبررات التي قادتنا إلى الحرب، وأنهم مستعدون لتكرار الكذبة نفسها مئات المرات؟ فهذه لحظة التخندق والثبات على المبادئ، وعلى الجبناء الرعاديد في البيت الأبيض والكونغرس ومجلس الشيوخ أن يصمدوا كما يفعل الرجال!؟
■ مورين داود