عوني صادق عوني صادق

فلسطين المحتلة: الاستفتاء والنيات الانقلابية

الخلافات العميقة بين الفصائل الفلسطينية المتحاورة، وخصوصا بين حركتي (فتح) و(حماس)، تجعل من الإغراق في التفاؤل توقع أن يخرج هذا الحوار بخطة متوافق عليها (ولا نقول متفقا عليها) ترضي جميع أطرافه، وتواجه الوضع الصعب والمأزوم الذي تعانيه جماهير الضفة والقطاع، وفي الوقت نفسه تحفظ للشعب الفلسطيني ثوابته، ولا تفرض عليه تنازلات جديدة تسد عليه سبل النضال وأبواب استرداد حقوقه الوطنية.

من هنا يبدو أن الاستفتاء قادم إذا ما تمسك الرئيس محمود عباس بتهديده، وسيكون هذا إن حدث انقلابا عسكريا مدبرا يتم في لباس مدني ضد الحكومة الشرعية بهدف إسقاطها بالقوة، حتى لو لم يتم اللجوء إلى القوة العسكرية. نقول هذا محذرين من التمسك بهذا الخيار لأنه  غير قانوني وغير شرعي وأخيرا غير ديمقراطي لأسباب كثيرة، ولأن نتائجه قد تكون وخيمة ولن تكون لصالح الشعب أو القضية الوطنية في ضوء الأغراض المعلنة المتوخاة منه.

فمن جهة، ليس دائما اللجوء إلى الاستفتاءات يعني الاحتكام إلى الشعب، أو دليلا على الديمقراطية، فنتائج الاستفتاءات يمكن أن تتعرض للتزوير، ونتائج الاستفتاءات العربية التي كان معظمها وما زال بعضها حتى اليوم لا يقل عن 99.99 % خير دليل على ذلك. ومن جهة أخرى، ليست كل القضايا التي يمكن عرضها على الاستفتاء، بل القضايا الواضحة السهلة هي وحدها التي يمكن أن تعرض، وعندما يكون الجواب ب ( نعم أو لا) أو (أوافق أو لا أوافق) أمرا ممكنا. أما عندما ينطوي الاستفتاء على أكثر من قضية واحدة كبيرة ومعقدة لا تقبل جوابا بسيطا واحدا، فعرضها يقصد به غالبا تزوير إرادة الشعب حتى لو لم يتدخل أحد في إجابات المستفتين. وأما قضايا الحقوق فلا يستفتى فيها أصلا، فهل يمكن أن يسأل فلسطيني: هل تقبل أن تتنازل عن نصف الضفة الغربية أو أربعة أخماس فلسطين؟ أو: هل تقبل أن تتنازل عن حق عودتك إلى أرضك ووطنك؟ أو: هل تتنازل عن القدس؟

كذلك لا يستفتى أحد تحت التهديد أو الإكراه، وإن استفتي لا يؤخذ بأقواله. إن سؤال المواطن الفلسطيني في الضفة والقطاع عن ماذا يريد وهو مجوع ومحاصر، ومخير بين الموت جوعا أو مرضا أو بالحرب الأهلية، وبعد أن صور له أن موافقته على الاستفتاء سترفع عنه كل تلك التهديدات، هو سؤال ظالم ومجحف، وابتزاز في غير زمانه أو مكانه.

على مستوى آخر، طالما أن الاستفتاء يقوم أساسا على قبول قواعد اتفاقية أوسلو والاتفاقيات الموقعة مع العدو الصهيوني، ونبذ العنف أو المقاومة (الاتفاقيات تلغي حق المقاومة)، والتي ترفضها الحكومة الفلسطينية الحالية... نقول طالما أن الاستفتاء يقوم على هذه القواعد، ألا يعنى إجراؤه إلغاء للانتخابات التشريعية الأخيرة ولإرادة الشعب التي أفرزت أغلبية في المجلس شكلت الحكومة على أساس برنامج يرفض تلك القواعد؟

لقد قيل إن (وثيقة الأسرى) التي ستعرض على الاستفتاء تمثل كل الفصائل وكل الأسرى، وقد تبين أن هذا القول غير صحيح، بعد أن أصدر أسرى حركة (حماس) بيانا قالوا فيه إنهم لم يطلعوا على هذه الوثيقة ولم يشاركوا في صياغتها. وهناك أيضا أسرى حركة (الجهاد الإسلامي) وغيرهم من فصائل المعارضة وبعض المستقلين لا يوافقون عليها أو يتحفظون، وهي بهذا وثيقة لا تمثل الإجماع الوطني ولا إجماع الأسرى. إضافة إلى ذلك، فإنه إذا كان أحد لا يستطيع أن يزايد على وطنية الأسرى، وهم عنوان النضال الوطني والتضحية والفداء، فإنه ليس مساسا بهم أو بوطنيتهم القول إنهم مناضلون وليسوا خبراء في السياسة، وهم لا يتحملون العبء أو المسؤولية عن قرارات تتعلق بقضايا مصيرية كالمطروحة في الوثيقة والتي ستتخذها قيادات سياسية. وهذا لا ينفي أن (وثيقة الأسرى) تصلح لتكون وثيقة أساسية من وثائق الحوار قابلة للبناء عليها، وقابلة أيضا للتعديل والحذف والإضافة. 

وإذا كانت النيات الطيبة لا تكفي لتحقيق الأفعال الطيبة، فإن النيات غير الطيبة تكفي لارتكاب الأفعال السيئة. وإذا كانت الطريق إلى جهنم مفروشة بالنيات الطيبة، فإلى أين يمكن أن توصل النيات غير الطيبة؟ لقد رفضت حركة (فتح) منذ اللحظة الأولى المشاركة في الحكومة التي كلف بتشكيلها إسماعيل هنية، وأصدر الرئيس عباس قرارات ومراسيم انتزعت من الحكومة أهم صلاحياتها المخولة لها في ما يسمى (القانون الأساسي)، وتم تشكيل حكومة موازية تتبع  (مؤسسة الرئاسة). واعتبرت (فتح) الحكومة مسؤولة عن الحصار الاقتصادي والمالي والسياسي المفروض عليها فوقفت عمليا مع الذين فرضوه رغم ما يقال عكس ذلك، وهو المسؤول عن الوضع الصعب الذي تعيشه جماهير الضفة والقطاع، وهي تطالب الحكومة بالموافقة على شروط الحكومة «الإسرائيلية» والإدارة الأمريكية. 

ومنذ اللحظة الأولى لفوز حركة (حماس)، قررت حركة (فتح) تضييق الخناق عليها لإفشالها وإجبارها على الهرب بجلدها، لكن (حماس) لم تهرب، ولا يبدو أنها ستهرب (ويا ليتها تهرب قبل أن تقع في المحظور). وهكذا تم تنفيذ خطة انقلابية من شقين: الأول كان (وثيقة الأسرى) وكان وراءها مروان البرغوثي، والثاني (الاستفتاء على الوثيقة)، وقامت الخطة على عرض بسيط: إما أن تقبلوا الوثيقة أو نعرضها على الاستفتاء!

ويبقى بعد ذلك سؤال: إذا تم إجراء الاستفتاء، هل سيغلق الباب المشرع على الخلاف والصراع على السلطة، أم سيفتح الباب الموارب- حتى الآن- على جهنم؟