التشوهات الناتجة عن الخلط بين المفاهيم والترجمات الحرفية أو شبه الحرفية

إن مسافة كبيرة تفصل بين مجتمعاتنا ومستوى الوعي الذي بلغته بقوة درجة التطور، و بين الفكر الغربي في المجال الاجتماعي وخصوصاًُ: ما يتعلق بالمسألة القومية، وقبلها تشكل الأمة/ الدولة. وما تم في أوربا في هذا الشأن لم يتحقق نتيجة عمق في التفكير أو ذكاء مفرط، بل كان بفضل ما تم التوصل إليه بقوة العمل والإبداع والتطور.. 

وعلى سبيل المثال، لم يكن بالإمكان الخروج من حدود القبيلة والعشيرة والعائلة الكبيرة، لا بقوة الأماني والرغبات والأحلام والمزاعم، ولا بقوة البلاغة، بل بقوة الثورة الصناعية التي تطلبت فيما تطلبت، وعلى رأس ما تطلبت اقامة سوق في طول وعرض منطقة جغرافية متماسكة إلى هذا الحد أو ذاك، كأن تكون ايطاليا، أو فرنسا أو بريطانيا ... التي كانت كل واحدة منها تتألف من عدد من الدول الصغيرة، وكانت كل مدينة في ايطاليا تشكل دولة قائمة بذاتها، مثل فينيسيا (البندقية) . وتندغم ضمن هذه السوق الدول الصغيرة والأقوام في أمة ايطالية أو فرنسية أو ألمانية أو هولندية والخ.. وتقوم دولة كل منها: الدولة الايطالية أو الفرنسية أو الانكليزية أو الهولندية..

  وبسبب النزاع بين الأسواق الداخلية (الأمم/الدول) الفرنسية والألمانية والبريطانية..، وعلى الأسواق الخارجية المتخلفة والمتفرقة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، إستنجد بعضهم في هذه الدولة أو تلك بكثير من الأفكار التي كان الزمن قد عفا عليها، وأعني أفكار التعصب إلى دين معين، أو مذهب معين، أو قوم من الأقوام، مثل الفاشستية التي كان أجداد موسوليني ينادون بها لتوحيد السوق الايطالية في مواجهة التهديدات الخارجية عموماً، والتهديدات الفرنسية خصوصاً، تلبية لحاجات الثورة الصناعية. وكان رفع الشعار الفاشيستي، أي حزمة العود التي يصعب كسرها، صحيحاً ومناسباً في تلك الفترة ،  أما موسوليني، فقد استنجد بهذا الشعار أو ذاك بغية اللحاق بانكلترا وفرنسا في استعمارها لأراض واسعة في القارات الثلاث المذكورة. وما قلناه عن موسوليني ينطبق على هتلر وحزبه النازي أي (الاشتراكي الوطني أو القومي الجرماني أو الألماني). وقد تسرب أدب التعصب القومي عن طريق المثقفين الذين احتكوا بالأوربيين عبر ألف وسيلة ووسيلة. وأحلوا الرغبات والأماني والأحلام، مثلما فعل كثير من الأوربيين في مراحل سابقة، محل الحقائق والوقائع.. وخلطوا مابين مفهوم الأمة الوارد ذكرها عشرات المرات في القرآن الكريم، وبين ترجمة كلمة nation بـ"أمة"، وهي أي nation لا تتشكل إلا في خضم ثورة صناعية تتطلب سوقاً في منطقة جغرافية معينة، كأن تكون بلداً أو مجموعة من البلدان العربية، أو كل البلدان العربية، تنتج عنها nation عربية ودولة عربية في الوقت نفسه.

   وغنيٌ عن البيان أن السوق الملبية لمتطلبات الثورة الصناعية تختلف عن السوق التي تلبي حاجات العلاقات   السابقة على الرأسمالية التي تعتبر في الوقت الراهن امتداداً للأسواق الخارجية، وبالتالي،  فان الدول في منطقتنا  وفي معظم بلدان العالم الثالث قد أُقيمت بالشكل المعروف، ليس تلبية لحاجات داخلية، بل تلبية لحاجات أسواق الدول التي أقامتها، كأن تكون بريطانيا وفرنسا في مثال اتفاقية سايكس- بيكو. ومع ذلك ، فان بالإمكان الانطلاق من هذا الواقع وصولاً إلى تلبية متطلبات الثورة الصناعية التي لابد منها لترسيخ الدولة /الأمة، والانطلاق منها نحو إقامة دولة/الأمة العربية. وليس أسهل على الاستعمار من هدم الأبنية التي لاتستند إلى أي أساس . والولايات المتحدة تسعى إلى ذلك في الوقت الراهن بغية إقامة بناء من دون أساس يناسب متطلباتها التي تختلف عن متطلبات انكلترا وفرنسا في أوائل القرن العشرين

  وفي المقابل فان ما يسمى تعصباً قومياً هو في الحقيقة تعصب إلى  ما دون التعصب القومي الناتج عن  تشكل الأمة/الدولة أولاً، وها هو يذوب مع أول هجوم امبريالي، ليتكشف عن تعصب ليس للدين وحسب، بل للمذهب في الدين الواحد، بين شيعة وسنة، أو سنة وعلويين، وغيرهم وغيرهم.. والآتي أعظم.. أي سينحدر التعصب نحو المدارس والتيارات في المذهب الواحد وهكذا.. خدمة للمشروع الامبريالي الصهيوني التفتيتي حتى نخاع العظم في منطقتنا..

  المسؤول الأول عن التشويه في إقامة دولنا، والمسؤول عن منع شعوبنا عن السير في السبيل الذي يؤدي إلى الثورة الصناعية، بإشغالنا بالقاعدة الامبريالية الصهيونية التي لعبت دوراً تعويقياً كبيراً، وها هو يلعب دوره بحرماننا من كل شيء بما في ذلك حقنا في الحرية والديمقراطية التي يتبجح الأميركيون بها كثيراً ولا يلتزمون بها حتى في  العلاقة مع الأمم المتحدة ومع حلفائهم في أوربا الغربية وغيرها.

  ومع ذلك تحتشد في ساحات لبنان وسورية وغيرهما حشود الداعين إلى الوقوف إلى جانب أميركا بغية القضاء على الداء المتمثل بالاستبداد، وكأن لا علاقة للاستعمار عموماً، وللامبريالية الأميركية خصوصا ً بنشر هذا الداء في مختلف بلدان العالم بدءاً من بلدان أميركا اللاتينية، وانتهاء ببلدان آسيا وأفريقيا، ومن ضمنها بلداننا التي لولا الدعم الامبريالي الأميركي الصهيوني له، لما عاش و لا دقيقة واحدة، وخصوصاً أن وجوده مرتبط بوجود إسرائيل التي يبرر بواسطة وجودها الخطير، كل ما يقوم به من اضطهاد وقمع والخ...

  وسيصير بنا وبهم إن نجح الحل الخارجي ما صار بالسمكة التي قفزت من المقلاة إلى النار، في حين أن بالإمكان تجنب هذا المصير إذا انطلقنا من أن هذه الأنظمة بإرادة البعض فيها أو حتى غصباً عنهم، هي قبل الهجوم عليها غيرها بعد الهجوم عليها، وأن من الضروري القتال مع من يقاتل منها ضد الامبريالية والصهيونية، ولا يجوز بالمطلق القتال مع الامبريالية والصهيونية ضدها، أو حتى ضد صدام حسين..ومن هو أسوأ من صدام حسين، إلا في حال الإصرار على ارتكاب جرم الخيانة الوطنية العظمى علناً وعلى رؤوس الأشهاد.

  وليس مقبولاً أبداً قول فلا ن أو  علان من أنه لا يقاتل الامبريالية والصهيونية دفاعاً عن هذا النظام أو ذاك..ومثل هذا الشخص لايريد أن يفهم، أن هذه الأنظمة ستكون ضعيفة إلى أبعد الحدود إذا ما نجحت شعوبنا في تسديد ضربة قوية للامبريالية، وهزمتها، في حين أن الامبريالية ستصبح مثل فرعون، أو على الأقل مثل شارون، إذا لم يستطع أحد أن يردها. وبسبب ذلك قالوا بأن الليبراليين الجدد لا يرون أبعد من رؤوس أنوفهم.

 

■ نذير جزماتي