الاستقواء بالحضيض(ج2)

 العمليات الاستشهادية أعادت للناس شيئا من إحساسهم بكرامتهم وذاتهم وجرأتهم وأخذت  توقظ الهمم وتحرض على الالتفات إلى إسرائيل. لذا قرأنا في الموضوعات تحت العنوان نفسه هذا الكلام الذي يحاول أن يغتصب منا كل هذا: استفردت إسرائيل بالشعب الفلسطيني في الانتفاضة الأولى نتيجة لتدهور الوضع العربي ،الأمر الذي دفع إلى عسكرة الانتفاضة الثانية. في الانتفاضة الأولى عرفنا ثقافة الاستشهاد التي أخذت تتحول إلى ثقافة للموت. وقف التدهور العربي شرط لازم لوقف تعميم ثقافة الموت في صراعنا مع إسرائيل.. لذلك من الطبيعي أن يندفع بعضنا من اليأس إلى الموت والخلاص السهل، ومن غير الطبيعي ألا تبادر قوى شعوبنا الحية إلى تعميم ثقافة الحياة والسلام.

إذاً الشهداء هم الذين قتلتهم إسرائيل في الانتفاضة الأولى دون قتال، أما الذين قتلتهم في الثانية فهم موتى، لم يفتدونا، بل نفوسهم صغيرة وإرادتهم ضحلة لأنهم لم يصمدوا فاندفعوا من اليأس إلى الموت والخلاص السهل. أي أنه الانتحار بعينه!. والمعروف أن إحساس الناس بالرضا والفخر والسكر بالفداء كان طاغياً ولم يخالطه أي إحساس مبعثه الانتحار، ومعروف أيضا أن خطابهم قبل التنفيذ كان على الأغلب موجه إلينا وليس إلى الحكام، وأنهم كما يفهم من هذا الخطاب كانوا يشفقون من جبننا وتخاذلنا، وليس هذا إحساس المنتحر تجاه الباقين أحياء.

  * أجهزة أمن العدو أعلنت أن الفدائية هنادي جرادات، بعد أن دخلت المطعم، تناولت وجبة من طعام تحبه، وكانت أكثر من طبيعية قبل أن تفتدينا. وهذه ليست صفة المندفع إلى الموت والخلاص السهل بدافع اليأس.

  *  فنان إسرائيلي من مواليد حيفا ومهاجر من إسرائيل عمل لوحة للفدائية هنادي  جرادات التي أحبتنا حتى الموت السهل وكتب عليها «مناضلة من أجل الحرية ضحت بنفسها كانتحارية». يقول: مناضلة ضحت، لذا تفقد صفحة انتحارية معناها السلبي. وهذه الصفة كنا نطلقها بإعجاب على الكاميكاز الياباني وعلى استشهاديينا قبل أن ننتبه للمضمون السلبي الذي يحمله قادة العدو لها .

  *  نائبة بريطانية قالت: لو كنت فلسطينية لفعلت ما يفعلون. في هذا تقدير لفداء الاستشهاديين وتحميل للعدو مسؤولية أفعاله .كل هذا ومناضلونا يقولون إن هذا اندفاع من اليأس إلى الموت والخلاص السهل، جبن وضعف إرادة. هذه ليست هفوات بل نتيجة مجاهدة ومكابدة. فلقد فهمنا أن يعارضوا ثقافة الموت بثقافة الحياة لكن لماذا يعارضونها بثقافة السلام؟! وثقافة من تقول بهذا السلام المطلوب من الضحية ؟! على ما يبدو كل هم المناضلين هو السعي إلى سلام المطرود مع غاصب بيته، ولولا ثقافة الموت لكانت إسرائيل قد تخلت عن طبيعتها وعشنا بسلام ونبات!. إن الحديث عن السلام يأخذ دلالته باعتبار المتحدث والمتلقي، فلئن كان شرف اليهود غير الصهيونيين يكمن في الحديث عن السلام، فإن شرفنا يكمن في الحديث عن المقاومة، فأين هم من الأوروبيين الذين رأى60% منهم في إسرائيل أعظم تهديد للسلام العالمي رغم العمليات الاستشهادية؟!. وأين هم من موقف مجلس الأمن الذي رفض بما عليه إدانة العمليات الاستشهادية ؟!.

  تقييم جدوى هذا النمط من العمليات مشروع ولا محرمات أمام الفكر.

  المشكلة في انهماك المناضلين في إدانة سلوك نضالي ـ قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً ـ بمنطق العدو نفسه، أو بنفس نوع الشحنة الانفعالية، وبلغة الحضيض، لكن بشيء من المداورة المألوفة في أوساط النخب. والمفارقة أن الموضوعات خضعت للنقاش العام والحزبي وجرت عليها عملية ترقيع دون أن تمس هذه المقاطع، ما يعني أن البعض انتبه لمدلولها، فوضع وجهة نظره إلى جانبها إذ لم يتمكن من مسحها.

  إنه موقف من المقاومة يزين نفسه أمام العيون الكليلة بالحديث عن ثقافة الاستشهاد التي كشفت عن الوجه الحقيقي لكل من الفلسطينيين وإسرائيل، وعن تدهور الوضع العربي المسؤول عن ثقافة الموت وعن ضياع الوحدة الوطنية الفلسطينية .

  يؤيد رأينا الموقف من المقاومة عموماً؛ فمقاومة الفرنسيين في سورية حسب مانديلا، أدق المعبرين عن روح الموضوعات وافتتاحيات الرأي، كانت من قلة متطرفة، والتحرير السليم للعراق اليوم هو التحرير السلمي، ونار الحرب فيه لفحت وجه النظام السوري ولم تلفح وجههم، أما في لبنان فيجب «حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية»  «كجزء من عملية ترتيب المنطقة وفق حاجات النظام الدولي الجديد بقيادة أمريكا» لذا أخرجتهم مظاهرة القوى الحاضنة للمقاومة عن طورهم، بعد أن احتفلوا كثيراً بثورة الاستقلال والديمقراطية فيه، فهم لم يروا إلا خسارة السلطة السورية، ولم يجدوا الديمقراطية والحرص على السيادة إلا عند رجال العائلات والطوائف والمجازر، ذوي الخطاب الانفعالي، الأقوياء بالقوى الاستعمارية، المتقاعسين عن المقاومة.

  حقاً لقد عرف الشعب الفلسطيني ظاهرة الانتحار، لكن بعد أوسلو مباشرة، وذلك بسبب الخيبة الناتجة عن سفح نتائج الانتفاضة الأولى على يد القيادة الفاسدة المستبدة التي أخذت بثقافة الحياة والسلام. وعسكرة الثانية كان لخلق توازن رعب بعد الاستشهاد المجاني الذي تباركه الموضوعات في الأولى، كذلك طلباً للوحدة الوطنية بعد أن هددت أوسلو بتفتيت المجتمع إذ عرضت المشروع الوطني للخطر، وبسبب الانتصار العسكري للمقاومة اللبنانية، ولكي توقف تدهور الوضع العربي إلى مزيد من ثقافة الحياة والسلام.

  نزعة الانعزال القطري هي الوحيدة التي قد تتفق مع النزعة الوطنية عند بعض أصحابها، لذا استحقت أن نقول فيها كلمة: لقد أخفى الميل إلى العزلة دائماً نوايا خطيرة؛ فلقد أنتجت القيادة الفلسطينية التي استعجلت ركوب قطار التسوية حتى لا يفوتها ـ حسب زعمها ـ فساداً وقمعاً وتفريطاً لا سابق  له، أما القيادة الروسية ـ ورفيقاتها ـ التي زعمت الرغبة في التخلص من عبء الجمهوريات الأخرى، فلقد أنتجت مافيات وحولت روسيا إلى دولة من دول العالم الثالث، أما سياسة السادات، فقد أنتجت المزيد من الفقر والخراب، ورهنت مصر بالشكل الذي كان قبل ثورة تموز، فراحت مصر وما عادت سيناء، وهل نتحدث عن نزعة الانعزال في لبنان؟!.

  لنقارن هذه التجارب مع تجربة فيتنام وكمبوديا ولاوس ؛ هناك قاتلوا معاً ولم تنكشف الخلافات إلى أن انتهوا تماماً من الاحتلال الأمريكي. وهو موقف يمليه العقل والصدق. هذه المقارنة ضرورية لأن الشيء قد يعرف بنقيضه، ولأن دعاة ثقافة الحياة والسلام يتحدثون -إذا ما تحدثوا- عن احتلال الجولان فقط، بشكل ظاهره المزايدة على  سلطتهم، متناسين استيطان فلسطين من غرباء الوجه واليد واللسان، متجاهلين في الوقت نفسه طبيعة هذا الكيان التي لن تسمح  بالوصول معه في أحسن الأحوال إلا إلى سلام هش.

 

■ أكرم إبراهيم