إعصار كاترين: فضيحة نظام

أعاصير متتالية مرت على أمريكا الوسطى وجنوب الولايات المتحدة، ولكن إعصار كاترين كان الأشد تدميراً، والأشد مأساوية.

الكوارث الطبيعية يعتبرها الناس عموماً، ولاسيما في البلدان ضعيفة التطور، قضاء وقدراً، ولا تتسبب بأي احتجاج، ولذا فإن كارثة تسونامي الرهيبة مرت وكأن شيئاً لم يكن.

بعض الإغاثة وانتهى الأمر، وأقل منها ضجة الفيضانات التي تحدث كل سنة تقريباً في بلدان عديدة، وتدمر، وتلقي بدفعات بشرية عديدة إلى حيز التشرد والجوع.

إعصار كاترين أثار ضجة أمريكية ودولية لأن الإدارة الأمريكية قصرت في كل شيء، في الاستعداد للإعصار، وفي الإغاثة وفي سرعة التحرك...إلخ.

لنتجاوز كل ذلك مؤقتاً ولنتساءل، هل الكوارث الطبيعية هي طبيعية مائة بالمائة؟ هل خطر للمراكز العلمية والتكنولوجية في العالم المتطور أن تتساءل عن دور التجارب النووية، وعن دور التلوث البيئي المتنوع في كل ذلك؟

وبالمقابل هل يقف العلم والتكنولوجيا عاجزين أمام هذه الكوارث؟ أليس بالمستطاع التأثير في الأعاصير، في الهزات الأرضية، في حرائق الغابات، التي من السهل إطفاؤها وتبقى ممتدة أشهراً، وتلتهم مساحات واسعة؟ ألا تستطيع القوة النووية المعبأة اليوم لتدمير البشر والكوكب، أن تستخدم في التأثير على الكوارث الطبيعية المضادة للبشر. وبكلمات أخرى، ألا يستطيع المرء أن يسخر العلم والتكنولوجيا للحياة بدلاً من أن يسخرها للموت؟

المنطق يقول بالإمكان ذلك، أما التفاصيل فتترك لمراكز البحث العلمي على المدَيين القريب والبعيد.

ولكن هنا يدخل العامل السياسي في الموضوع. إن العلم والتكنولوجيا يستطيعان الكثير الكثير. لقد استطاعا غزو الفضاء وسبر الأعماق وكشف الأسرار البيولوجية، وتحقيق المعجزات التي تفوق أي تصور لدى الإنسان، وهما ماضيان حثيثاً في كل ذلك. ولكن الوظيفة المعطاة لهما خاضعة لإرادة الاحتكارات الدولية، التي هي وحدها تستطيع شراء الأدمغة وتوفير الإمكانات المادية المختلفة لتحقيق المشروعات على أرض الواقع. ومصالح الاحتكارات ليست فقط مغايرة، وإنما هي ضد مصالح الأغلبية الساحقة من البشر.

الميزانيات العسكرية تستهلك الجزء الأهم من الميزانيات العامة، المخصصة لمختلف الخدمات، فالإدارات الممثلة للاحتكارات الدولية تركز بالدرجة الأولى على العدوانية وقتل البشر، ولذا فهي موضوعياً ليست ضد الكوارث الطبيعية، وإنما متعاونة معها، ومحرضة لها. التقصير عن الإغاثة ليس عيباً أخلاقياً أو إنسانياً في المسؤولين عنه، وإنما هو سلوك طبيعي متفق مع طبيعة الموقف من البشر، الذين لا يهمون الاحتكارات، إلا بمقدار ما يمكن اعتصارهم لصالحها. ما يهمها أن يوجد عاطلون عن العمل، أن يوجد فقراء، أن يوجد مشردون؟ يكفي عدد كاف من العمال الذين يسيِّرون مختلف الأعمال التجارية والصناعية والمالية، أما الباقون، ففائضون عن الحاجة، وإذا ما قتلتهم الكوارث الطبيعية، تكون قد أزالت عبئاً اجتماعياً عن تلك الاحتكارات.

أيضاً، التجارب النووية، وتسميم البيئة، وحرق الغابات، وكل ذلك، إضافة إلى أنه يدخل في النشاط متعدد الوجوه لتلك الاحتكارات، فإنه يحرض الكوارث الطبيعية، يحرض الهزات الأرضية والأعاصير والفيضانات، وقد يتسبب في نهاية المطاف في خلق جو غير صالح للحياة على كوكبنا، أو في تدمير الكوكب (إذا ما حدثت حرب نووية مثلاً).

الحياة على الكوكب من منظور حياة الأغلبية الساحقة من البشر تحتاج قبل كل شيء إنهاء العدوانية وإنهاء الاستغلال، وتسخير إمكانات الإنسان المادية والعلمية في معالجة مختلف الآثار الاجتماعية المدمرة، التي خلفها ثنائي العدوانية والاستغلال، معالجة ضعف التطور، وفي الوقت نفسه الفقر والأوبئة والعدوانية على الطبيعة بمختلف تلويناتها.

وهذا ببساطة يحتاج سقوط نظام الاستغلال، وإقامة نظام بديل لصالح الأغلبية الساحقة من البشر.

لنعد إلى تقصير الإدارة الأمريكية، وتقصير إدارات الدول الأخرى تجاه مختلف الكوارث الطبيعية.

بالنسبة للإدارات جميعها، التقصير هو عدم حمل المسؤولية الاجتماعية والإنسانية تجاه الشعب، ولكن بالنسبة للإدارات الثالثية قد يدخل في أسباب التقصير ضعف الإمكانات، فالإدارات الأمريكية ـ اللاتينية، مثلاً، تقصر تجاه الفيضانات والأعاصير بسبب عدم حملها للمسؤولية تجاه الشعب، ولكن أيضاً بسبب ضعف الإمكانات لديها. أما بالنسبة للإدارة الأمريكية، فالتقصير ناجم فقط عن عدم حمل المسؤولية تجاه الشعب. وهذا لا يظهر فقط أمام الكوارث الطبيعية، إعصار كاترين، الأعاصير الأخرى، حرائق الغابات...إلخ، وإنما أيضاً في إطار البطالة والتضخم النقدي، والخدمات الاجتماعية، والتمييز العنصري، ومحاربة الجريمة المنظمة (القتل، الدعارة، المخدرات...إلخ)، والتشرد، والتسمم البيئي، والدوائي...إلخ. وهذا التقصير طبيعي وعضوي، ولا يقاومه عملياً أحد، لأن مقاومته تحتاج التنظيم السياسي المقاوم للنظام السياسي القائم، المبني على دستور متقادم عنصري يرجع إلى القرن الثامن عشر، وعلى الحياة الحزبية المقتصرة عملياً على حزبين يتبادلان السلطة في مسرحيات انتخابية هوليودية. تكلف الأموال الأسطورية، وإنشاء تنظيم سياسي مقاوم هو أمر معقد في الحياة الأمريكية الحالية، حيث كسر الإضرابات، وحيث تستخدم أقذر الوسائل لإخماد الأصوات المعارضة جدياً للنظام. المالي جي غود Gould الذي عاش في القرن التاسع عشر، وارتكب فضائح مالية، كانت القاعدة الذهبية لديه «استئجار نصف العمال لقتل النصف الآخر»، وهذه القاعدة هي المعمول بها في النظام الأمريكي القائم، لا على الصعيد الداخلي فحسب، وإنما على الصعيد العالمي أيضاً.

لقد هاجمت الصحف الأمريكية والعالمية إدارة الرئيس جورج بوش، واتهمتها بالتقصير، وأبدت حيرتها من أن أقوى دولة في العالم تقصر أو تعجز أمام معالجة آثار كارثة إعصار كاترين، واتهمت الإدارة بالتمييز العنصري. وقالت إن فضيحة التقصير خفضت شعبية الرئيس بوش إلى أدنى مستوى. ولكن ما لم تقله وسائل الإعلام هو أن التقصير عضوي وطبيعي، وأن خفض الشعبية لا يقاس في حقيقته بالنقمة التي تجري على أفواه الناس في مثل هذه الفضيحة الكبيرة. الشعبية لها مقياس آخر هو إلى أي مدى الاحتكارات التي أيدت الرئيس جورج بوش في الانتخابات الرئاسية هي راضية عن أدائه، بصرف النظر عن الأقوال، التي يدلي بها هو، أو يدلي بها آخرون. الرئيس نفسه ليس مطروحاً للانتخابات الرئاسية القادمة، وقد تتبنى الاحتكارات إياها إنساناً آخر مثل ديك تشيني، الذي يقال أنه هو الحاكم الفعلي من خلف الستار، أو مثل رامسفيلد، ولا يتغير شيء والحالة هذه، على مستوى الإدارة الأمريكية.

فضيحة إعصار كاترين هي فضيحة نظام، لا فضيحة فرد، ولكن لا أحد مع الأسف يتطرق جدياً إلى ذلك.

 

■ محمد الجندي