اغتيال بيار أمين الجميل.. «الكاوبوي».. و دراما دموية جديدة في لبنان
لم تمهل «اليد الطويلة» السعي اللاهث الذي راح يبذله البعض في اللحظات والثواني الأخيرة لتجنيب لبنان الوصول إلى ذروة الاستعصاء السياسي وتفادي الاحتكام للشارع، كما لم تمهل المعارضة الوطنية التي كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أولى الثمار المرجوة وطنياً وتوجيه صفعة قوية للمشروع الأمريكي في المنطقة، فهذه «اليد» التي طالما تدخلت في أوقات منتقاة بعناية لدفع الأمور بعكس ما تسعى إليه القوى الوطنية المقاومة ومن يحالفها من قوى الممانعة، صوبت من جديد إلى صدر السلم الأهلي والاستقرار والأمن المشتهى في لبنان، لإعطاء المزيد من الفرص و(الأوكسجين) لحكومة قوى 14 شباط المعولمة برئاسة «السنيورة» التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، واختارت هذه المرة رجلاً هامشياً بالمعنى السياسي وهو بيار أمين الجميل، ولكن له ما له من الثقل الرمزي والعائلي، كفيل أن يعيد إنتاج أزمة سياسية، محلية لبنانية بتداخلات عربية وإقليمية ودولية، بدأت مع اغتيال الحريري، ولما تنته فصولها الدرامية الدموية بعد..
إذاً، (القربان) هذه المرة، كان بيار الجميل، الابن الأكبر للرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل، الذي لقي مصرعه بمنطقة الجديدة بضاحية بيروت الشمالية بطريقة كلاسيكيكية جداًًًً، وفي وضح النهار، وكما أكد شهود عيان فإن سيارة مجهولة صدمت سيارة الجميل المصفحة، ثم خرج منها شخص وأطلق عليه عدة رصاصات عن قرب في رأسه بكل هدوء فأوقعه صريعاً..
قوى 14 آذار التي لم تفهم، ولا تريد أن تفهم أن شخصياتهم ورموزهم وقادتهم ما هم إلا وسائل رخيصة بأيدي القوى الإمبريالية الأمريكية – الصهيونية.. والفرنسية يمكن أن يضحوا بأي منهم في أي وقت ودون مراعاة لأية اعتبارات أو (تحالفات)، هذه القوى سرعان ما أصدرت بياناً إثر اجتماع طارئ تداعوا لعقده جاء فيه: «إن القتلة هم أغراب ليس بين اللبنانيين الأحرار من يتعرف عليهم... هم من فصيلة الذين هددوا بقلب الحكومة للهرب من العدالة وقد شرعوا في التنفيذ». وأضاف البيان متوعداً: «الكيل طفح. سنحاسب المجرمين ومعهم سنحاسب كل من يغطّي الجريمة بمواقفه السياسية ويتواطأ بشعارات يعرف أنها ستستخدم ورقة توت للإرهاب السياسي الذي ضرب لبنان مجدداً».
وكما يشتم من البيان وهو أول ردود الفعل، فإن حادثة الاغتيال هذه سيكون لها تداعيات خطيرة على المستويين اللبناني والإقليمي، فالمخططون لها، وهم دون أدنى شك حكام العالم الجدد، صقور البيت الأبيض الغارقون بالأزمات الخانقة، يراهنون أن تشكل هذه الحادثة بدايةً، كابحاً لأي تحرك قد بقوم به فريق المعارضة لإسقاط الحكومة المترنحة، وبالتالي تخليهم عن فكرة الانتقال إلى الهجوم والعودة بهم إلى مواقعهم الدفاعية، ومن ثم تركيز الهجوم على فض التحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر، باعتبار أن الجنرال عون لابد أن يراعي ولو عاطفياً جمهوره «المسيحي» المتعاطف مع المصاب الذي ابتلي به آل الجميل، مما قد يقربه من رموز الفريق الحاكم، ويبعده عن حلفائه الحاليين، وإن حدث أن انفلتت الأعصاب وثارت الحميات وحصلت مصادمات أهلية أو حزبية فهذا بالنسبة للأمريكيين والصهاينة أفضل وهو جل ما يتمنون..
أما إقليمياً، فكل المؤشرات الأولية تؤكد أن الحراب والاتهامات ستوجه إلى سورية وإيران باعتبارهما راعيتين لـ«لإرهاب» و«التطرف» في لبنان والمنطقة، وقد يقوم الأمريكيون بتصعيد لاحق خطير بذريعة أنه قد توفر لديهم من الأدلة ما يدين إحدى الدولتين أو كلتيهما بارتكاب الجريمة، وبالتالي توجيه ضربة عسكرية لهما، أو بأقل تقدير استعادة كل الأجواء والاتهامات التي شهدتها المنطقة عقب اغتيال رفيق الحريري، وهذا بدوره سيسهل إعادة الكرة في الاعتداء على حزب الله بهدف القضاء عليه، والاستمرار في تهديد إيران وسورية كونهما تدعمانه سياسياً وعسكرياً..
رئيس كتلة المستقبل النيابية النائب سعد الحريري الذي كان يعقد مؤتمراً صحافياً في بيروت وقت وقوع الجريمة ويؤكد بإصرار «أن التهديد لن ينفع (معنا) وأن اللغة التي تستخدم أمام اللبنانيين لم تفتح نافذة للحل، وأن ما يعرض علينا هو دعوة للفراغ ولا يمكننا القبول بالثلث المعطل في الحكومة» كان أول من أعلن نبأ اغتيال الوزير بيار أمين الجميل وربما قبل وفاته (؟).
وبالطبع فإن أول ما تفوه به الحريري هو المسارعة إلى اتهام سورية ضمنا بقوله «بدؤوا بتنفيذ الاغتيالات التي وعدوا بها»، ثم صراحة في مساء اليوم ذاته بلقائه مع محطة CNN قال فيه إن «يد سورية في كل مكان».
كذلك حذا زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع حذو حليفه مؤكداً أن اتهام سورية لا يحتاج إلى دليل، لأن «هناك أمور واضحة تدل على ذلك»..
الغريب في الأمر أن الحريري كان يؤكد طوال الوقت في الأسبوع الذي سبق الاغتيال أنه « قبل ثمانية عشر شهرا، ارتكب قتلة أشرار جريمة العصر. منذ ثمانية عشر شهرا، ولبنان يواجه العواصف، تارة من عدو تاريخي لا يضمر سوى الشر للبنان وللعرب وتارة من نظام (أي النظام السوري) تشير الأصابع إلى مسؤوليته في تنفيذ كل العمليات الإجرامية التي استهدفت شهداء الاستقلال وتعمل على تخريب لبنان». فهل هذه مصادفة؟؟؟
بالعودة لما كان يصرح به بيار فإن المدقق في تصريحاته الأخيرة يرى أنه لم يكن على الدرجة المطلوبة من التزمت والانعزالية وقد قال قبيل وفاته بأيام: «إنني أرى في قانون محاسبة سورية مشروعاً إسرائيلياً ضد سورية والعرب، ولبنان ضمناً. ولذلك تجب معارضته تفويتاً للفرصة على إسرائيل، فلا نمكنها من تنفيذ مخططاتها في المنطقة» وقال أيضاً «لا مستقبل للبنان دون إقامة علاقات طبيعية جداً مع سورية»، فهل أراد الأمريكان أن يدفع ثمن هذا (التطرف) ليكون عبرة لغيره من الذين قد يفكرون بإعادة حساباتهم والعودة إلى رشدهم..
الآن، وفي كل وقت، هناك من يريد أن يعبث بذاكرة اللبنانيين، لكي ينسوا أن كل الضرر الذي أصابهم تاريخياً كان ومايزال بإرادة وتدبير وتخطيط وتنفيذ أمريكي – فرنسي – صهيوني، وإلا ما معنى التحذيرات المتواصلة للبنانيين بلسان وزيرة الخارجية الأميركية كونداليسا رايس من وقوع اغتيالات جديدة في لبنان. وهي تحذيرات أثارت بتكرارها تساؤلات عديدة بينها: إذا كانوا يعرفون فلماذا لا يمنعون وقوعها؟! ولماذا لا يبلغون السلطة في بيروت، وهي مؤتمنة، بمعلوماتها لكي تحول بين المجرمين وبين ارتكابهم الجريمة أو الجرائم الجديدة؟!
الصحفي العريق طلال سلمان قال: «لم يكن بيار أمين الجميل قد اكتسب خلال حياته السياسية القصيرة موقع العدو الخطير الذي لا بد من التخلص منه لأي طرف داخلي، أو لأية جهة خارجية. كان موقفه ينتمي إلى مدرسة جده وأبيه التي يحكم سياقها ما يقرب من السلطة» . فلماذا تم اغتياله هو بالذات؟؟..