ألا ينبغي تغيير الاتجاه؟
صرح وزير الخارجية التركي أن بلاده لا تؤيد تدخلاً خارجياً في الأوضاع السورية، وفي الوقت نفسه كانت الإنذارات تتوالى من المسؤولين الأتراك، فكيف يمكن فهم التناقض الظاهري بين هذين الاتجاهين؟ وهل يصح القول إن حكومة أردوغان ترى أن الأزمة السورية بمجرياتها وأحداثها أنضجت وضعاً يسمح لتركيا أن تحارب بالشعب السوري تحت عناوين الإصلاح؟
يقيناً أن الجغرافيا والجوار والحدود المشتركة والعلاقات الاجتماعية لا يمكنها أن تفسر أبعاد السياسة التركية، وفي الوقت نفسه فإن الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الشعب السوري في دور فاعل في دولته، كل ذلك لا يعبر عن العلة العميقة للسياسة التركية الراهنة إزاء سورية.
لقد تابع الساسة الأتراك باهتمام بالغ تطور الأحداث في سورية، ولاحظوا تعمق الشرخ الوطني، كما فهموا أن السبل السياسية الفعلية مسدودة إزاء حل الأزمة السورية، كما كان واضحاً للقاصي والداني كافة العوامل الإيجابية والسلبية، ولا يمكن أن يغيب تقدير حقيقي للاصطفاء الديمغرافي داخل سورية، وواهم من يشتق ذلك من نسبة المحتجين إلى مجموع السكان السوريين، وليس سراً أن سبل الاحتجاج تنوعت ونمت مجموعات نحو مقولة تتكرر يومياً في الفضائيات والصحف وهي أن النظام السوري لا يفهم إلا لغة العنف ولا يعتمد فعلياً على خطة إستراتيجية سياسية لكنه رهن أموره إلى الخطط الأمنية، إن ذلك الوضع يؤدي إلى تكوين مجموعات من المحتجين من شأنها مواجهة العنف الرسمي والتدابير الأمنية الحكومية. ومن الخطأ تقدير الموقف التركي بالانطلاق من البدايات في ذلك الشأن، والصحيح أن الموقف التركي بني على تطور المواجهة وآفاقها، وكم يكن تكوين بدايات «جيش سوريا الحر» مصادفة أو تكتيكاً عابراً ولا يمكن النظر إليه إلا على أساس تطوره وآفاقه.
كل ذلك لا يشكل أساساً للإحاطة بكل العوامل التي تدفع تركيا إلى اجتياز «المحاربة بالشعب السوري» فهي تعول على تأثير العزلة المتزايدة التي تحيط بسورية رسمياً واجتماعياً، ويلاحظ أن ذلك يشمل جميع الحدود الجغرافية، وبات واضحاً الموقف الرسمي العربي وخاصة دول الخليج. وتدخل زيارة وزير الخارجية التركي إلى السعودية في نطاق تدقيق الخطط وتوزيع المهام وتحديدها، ويبدو أن تركيا أصبحت مخولة بالشأن السوري وأن دور الآخرين هو الدعم المالي.
لقد انتقل الموقف السياسي الأمريكي من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بتنحي الرئيس بشار الأسد وحذت الدول الأوروبية واليابان وكندا في ذلك المنحى، ويتلازم ذلك مع تدابير اقتصادية ضد سورية، وتعول تركيا على العامل الاقتصادي وذلك بهدف اشتداد الأزمة وإرباك السلطات السورية وجعل الأزمة شاملة وغير مقصورة على الميدان الاجتماعي، كما تعول على تأثير ذلك على الرأي العام بحيث يدخل في الذهن أن النظام يزداد عجزاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وقد بدأت إدارة أوباما في الطلب بعدم شراء النفط السوري.
من نافلة القول إن الأزمة السورية لها منطقها، لها ديالكتيكها، ولا يمكن اعتبار ما صرح به وزير الخارجية التركي أمراً نهائياً. فما من موقف سياسي إلا وهو قابل للتحرك وذلك وفق المتغيرات التي تأخذها الأزمة، ويدفع ذلك إلى القول إن تركيا تكثف نشاطها العسكري في مجالات إعداد قوات سورية عسكرية للمواجهة مع الجيش السوري النظامي، ويمكن لها أن تطور موقفها ودورها العسكرية في المراحل اللاحقة، فهل تبادر السلطات السورية لقطع الطريق على ذلك؟
يقينا أن للشعب السوري حقوقاً سياسية واقتصادية، ويقينا أن له الحق أن يختار حاكميه وأن يحاسبهم، ولكن المعضلة الراهنة هي انعدام الثقة بين النظام والمعارضة وقد تعمقت الشروخ التي أصبح ملخصها «نحن أم هم» وقد شدد من عدم الثقة عدد الضحايا والتدمير، إلا أن الأهم يتمثل في أن القوانين التي صدرت (قانون الأحزاب، الانتخابات...) تعتبر لا دستورية لأنها تتناقض مع مواد في الدستور مثل المادة الثامنة، وكان العقلاني والمقنع أن يبدأ الإصلاح بتغيير الدستور أو تعديله في مواد أساسية ومفصلية. وغابت مفاهيم مثل تداول السلطة وجرى التمركز الإعلامي على المشاركة وتوسيع نطاقها، وقد شدد ذلك من الهوة بين السلطات السياسية والمعارضة.
إن أي سياسي لا يمكنه أن ينظر إلى اللحظة الراهنة وما يجري بها وعليه أن يفكر عميقاً بآثار وتداعيات ومفاعيل الأحداث الملموسة، ومادام الأتراك وغيرهم يفكرون بمصالح بلدانهم، وعندهم الاستعداد ليحاربوا «بالشعب السوري» تحت يافطة حماية المدنيين وضرورة الإصلاح، فإن الشعب السوري الذي له كامل الحق بالإصلاح العميق والتعددية السياسية وتداول السلطة وممارسة الحريات كافة، إن هذا الشعب يستحق حقوقه كاملة ويستحق أن يبادر الوطنيون لكسر الاستعصاء السياسي وإنقاذ الوطن الذي هو أكبر من أي حزب سواء إن في السلطة أو في المعارضة، فالإنقاذ الوطني ضرورة وطنية وقومية وتحتاج إلى المبادرة الإستراتيجية التي تقطع الطريق على الحلقات الأكثر خطورة في الخطة الأمريكية الصهيونية.