بريطانيا، على نار الأزمة!!
تشهد بريطانيا منذ أيام احتجاجات واسعة تتمركز في أحياء ومدن رئيسية مثل لندن ومانشستر، أخذت شكلاً عنيفاً يعبر عن احتقان اجتماعي عميق في أوساط المهاجرين بالدرجة الأولى، لتشمل أوساط السكان الأصليين بدرجة أقل إذا أخذنا نسبة المشاركين حتى الآن بعين الاعتبار.
واختلفت الآراء في تقييم ما يجري في مدينة الضباب، حيث يرى البعض أنها أزمة عابرة وجاءت رد فعل مباشر على سلوك الشرطة، في حين تشير آراء أخرى إلى وضع خاص في بريطانيا يتعلق بنموذج التقشف الليبرالي الذي اعتمدته الحكومة، بينما يرى آخرون أنها ذات بعد اجتماعي مجرد فقط، بالإشارة إلى بعض التمييز الذي يمارس في أحياء المهاجرين.
وحقيقة الأمر أنه ثمة أزمة اقتصادية تربك الاقتصاد الأوربي للسنة الرابعة على التوالي في سياق الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية، وهي أزمة أوربية لايمكن رؤية نهايتها على حد رأي أحد الاقتصاديين، فالاقتصاد البريطاني خسر خلال الفترة القريبة الماضية ما يقارب 200 مليار دولار، بينما قالت مصادر صحفية مقيمة في بريطانيا إن أعمال الشغب في لندن تأتي على خلفية التخفيضات التي أجرتها الحكومة البريطانية الائتلافية العام الماضي على مستوى الخدمات لكثير من المجالات ما أدى إلى ارتفاع مستوى البطالة وغلاء المعيشة وإيجاد حالة شعور بالإحباط خاصة لدى الشباب، حيث ارتفعت تكاليف الجامعة إلى ثلاثة أضعاف.
وما يعزز هذا الرأي هو تخوف دول أوربية من حدوث شيء مشابه لما يجري في بريطانيا على أراضيها إذ أعرب مسؤولون ألمان عن خوفهم وانزعاجهم الشديد مما يحدث في بريطانيا من أحداث شغب وعنف، وحذرت نقابة الشرطة الألمانية من تكرار أعمال الشغب التي تشهدها العاصمة البريطانية لندن ومدن بريطانية أخرى في مدن ألمانية كبيرة مثل برلين أو هامبورغ.
وحسب ما أوردته صحيفة الانفورماشين الدانماركية أن هذا الصراع لم يولد البارحة أو يوم الخميس 4 آب بل إنه صراع طويل، ربما منذ برزت مارغريت تاتشر على الساحة البريطانية. وكان هذا الصراع ينضج على نار هادئة وانفجر اليوم، معربة عن الاعتقاد أنه سينفجر في اسبانيا واليونان وألمانيا والدنمارك حيث اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء و«لاصوت للنقابات العمالية التي ننتمي لها». فالشباب الأجانب على الخصوص في الدنمارك يعاني التهميش والعنصرية من الإعلام والشرطة والساسة وهم هنا يشتركون بالأسباب نفسها التي تدعوهم للمواجهة مع الدولة واختيار طريق العنف للتنفيس عن سخطهم من هذا التهميش والتحقير. وتضيف الصحيفة: «ربما ستكون أحداث لندن ومانشستر وليفربول بداية الحريق والمواجهة بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية»..!
طبعاً ذلك لاينفي وجود عوامل إضافية، هي أيضاً في جانب منها أحد انعكاسات الأزمة، لتفعّلها أكثر فأكثر مثل البعد الثقافي، وتلك الصورة النمطية المكونة عن المهاجرين لدى نخبة المجتمع البريطاني، والتي تنعكس في طريقة تعامل السلطات معهم.
تحدث بريطانيون للصحافيين عن سخطهم على الشرطة. ونقلت صحيفة «ديلي تلغراف» عن طالب قوله «إن أفراد الشرطة لا يتحدثون معنا أبداً بل يتجاهلوننا وهم لا يعتقدون أننا بشر في هذه المنطقة». وقال ناشط شبابي «إن طريقة الشرطة في معاملة السود تقول إننا لا شيء».
وتحدث محاسب متقاعد عاش في منطقته 30 سنة متواصلة عن تصرف بعض أفراد الشرطة «بغطرسة» تستفز الآخرين.
يقول الكاتب البريطاني أوين جونس في كتابه: «شيطنة الطبقة العاملة» إن العجز في نفوذ الطبقة العاملة هو سبب مايحدث في شوارع لندن اليوم. وهذه الاحتجاجات ليست نتيجة لعدم الرضا عن التغيرات الهيكلية في سوق العمل، وانخفاض نفوذ النقابات العمالية، وفقدان الوظائف التقليدية، وقساوة ظروف العولمة فقط، بل إن هذه الأحداث التي تشاهدونها اليوم في شوارع لندن سببها هو تنامي ثقافة البلطجة الإعلامية، بحيث أصبح مقبولاً اجتماعياً تحقير وإهانة الطبقة الأدنى».
وحسب رأي البروفيسورة كيت بيكت في جامعة يورك فإن أهم الأسباب خلف أحداث الشغب في لندن اليوم هو التهميش والتحقير الذي يتعرض له أفراد الطبقة العاملة في انكلترا وهناك مدن كبرى عديدة في انكلترا اشتعلت فيها أحداث الشغب. وتضيف البروفيسورة كيت «عندما يتم تحقير وتشويه صورة طبقة اجتماعية معينة فإن هذه الطبقة تشعر بأنها لاتحترم وبأنها مهمشة ومسحوقة ولهذه الأسباب فإن هذه الطبقة تندفع بهذا الشكل العنيف لتعبر عن غضبها وسخطها من الحكومة. وفي هذه الحالة بالذات فإنهم غضبوا من مقتل شاب على يد الشرطة».
ما يحدث اليوم في بريطانيا «العظمى» هو إحد تجليات الأزمة الكبرى في بنية الاقتصاد الرأسمالي العالمي ككل، وهي ليست أزمة جزئية وعابرة ومحلية وهذا ما تؤكده أخبار أسواق المال في الأيام الأخيرة على الأقل، تلك الأزمة التي طالما تحدث ساسة المراكز الرأسمالية أنها في طريقها إلى الحل بينما الوقائع الجارية تقول عكس ذلك. إنها أزمة نموذج اقتصادي اجتماعي كامل، أزمة بنية اقتصادية اجتماعية سياسية، أزمة الخيارات المحدودة. وإذا كانت تفصح عن نفسها اليوم في أطراف النظام الرأسمالي أو أطراف المدن في المراكز فإنها ستمتد إلى بقاع الأرض المختلفة، ربما أسرع من المتوقع.