محمد الجندي محمد الجندي

العصر الأمريكي ... شراسة، وصراعات طائفية دموية

أحداث الاعتداء على كنائس الإسكندرية (أخبار 15/4/2006) والرد الطائفي عليها، تبدو من بعيد، وكأنها قصة منعزلة أفرزتها التوترات الطائفية الموجودة اليوم (ولله الحمد) في كل مكان.

الواقع أن هذا الأمر هو أبعد من ذلك بكثير، إن المسؤول عن مثل تلك الحوادث القذرة وعن التوترات الطائفية، وعن التجنيد الطائفي بمختلف تلويناته هو الإدارة الأمريكية.

الإدارة الأمريكية لاتمثل فقط «ديمقراطية» الاحتلال والإبادة واستنزاف ثروات الشعوب: الثروات البترولية، ثروات مختلف أنواع المناجم، ثروات الغابات، ثروات المزارع الواسعة. . . . .إلخ، وإنما تمثل أيضاً أداة التفعيل الدولية للصراعات الطائفية والعنصرية.

الصهيونية الدولية (أي الأصولية اليهودية) قويت وتعززت تحت جناح الإدارة الأمريكية، والأصوليات المسيحية في بولندا وألمانيا الديمقراطية السابقة، وفي مختلف بلدان الاشتراكية العلمية السابقة نمت تحت نفس الجناح، وتمزقت يوغسلافيا عنصرياً وطائفياً في ظل نفس الجناح، وتقوم الإدارة الأمريكية بحماية التيبيتيين والصينيين المنشقين، وبالنسبة للبلدان العربية والإسلامية، الأصولية الإسلامية هي التي قدمت، وتقدم للإدارة الأمريكية الخدمات المتعلقة بمحاربة التقدم، وقد يكشف التاريخ مستقبلاً دور تلك الخدمات في الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في الستينات والسبعينات، ومكشوفة هي الخدمات التي تقدم للقواعد الأمريكية، ولاحتلال العراق، وللإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني، وكذلك لاحتلال أفغانستان.

حتى خمسينات القرن الماضي، كان المسلمون في البلدان العربية والإسلامية مؤمنين، يقومون بشعائرهم الدينية، ويحترمون أنفسهم ودينهم، وكانوا وطنيين، لم يكونوا أصوليين بمعنى أنهم لم يكونوا متطرفين وعدوانيين، نشأ الإخوان المسلمون في البلدان العربية بتفعيل إنكليزي باكستاني، ولكن حتى هم كانوا مرنين في تعاملهم مع الأحزاب والقوى السياسية التي كانت قائمة، وباستثناء العنف الذي صدر عنهم في مصر في الخمسينات، لم يسجل عنهم أي عنف، كانوا يرون في التمسك بالدين خدمة لوطنهم، وينشطون عموماً في إطار ديمقراطي.

ثم أتى «الجهاد» الأمريكي ـ الأفغاني الذي لاعلاقة له بالجهاد في سبيل الله مع ظهور الإسلام، كان الجهاد من أجل إقامة دولة إسلامية تقف في وجه الإمبراطوريات الرومانية والفارسية والحبشية، ومن أجل توحيد قبائل الجزيرة العربية، ورفع سويتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. أما «الجهاد» الأمريكي ـ الأفغاني، فكان في سبيل تحقيق المخططات الأمريكية، وشتان مابين مجموعتي الأهداف.

كان معروفاً أن «الجهاد» الأفغاني لايمكن أن يصل مع حسن النية إلا إلى دويلات قبلية ضعيفة التطور اقتصادياً واجتماعياً، وتابعة سياسياً، أمن أجل هذا أوجد الجهاد في سبيل الله؟ كان الجهاد ضد الإمبراطورية الفارسية، لافي خدمتها، ولا في خدمة الإمبراطورية الرومانية، وكان الجهاد   ضد النظام الفارسي، لاضد الفرس، فبعد سقوط النظام أصبح العرب والفرس أخوة، وبعد سقوط السيطرة الرومانية عن بلاد الشام، وسقوط السيطرة الخارجية عن مصر أصبح العرب المسلمون والعرب المسيحيون، والعرب الأقباط إخوة، في أيام الأمويين والعباسيين كان الإسلام تطويراً للدولة والناس فكانت الإمبراطورية الإسلامية أرقى من نظيراتها المعاصرة لها حينذاك، واليوم الدول التي تزعم نفسها إسلامية هي عموماً في أوضاع مأساوية إدارة وشعباً، وهي عدا ذلك في تبعية جزئية أو كلية للاستعمار الدولي، حتى الدول المستقلة سياسياً. في الماضي كانت البلدان الإسلامية تعج بالعلم وبالبحث في الفقه وفي الطب، وفي العلوم اللغوية والطبيعية، في الرياضيات والفيزياء والكيمياء، إلخ، وكان رجال الدين في العاصمة البيزنطية يتناقشون في جنس الملائكة ذكوراً أم إناثاً، واليوم يحدث نفس الشيء ولكن بشكل معاكس: البلدان المتطورة صعدت إلى الفضاء، الذي أصبح السفر إليه سهلاً، مثل السفر  بين باريس ولندن، وفي البلدان التي تزعم أنها إسلامية يتناقشون في الجملة في عباءة المرأة، كيف يجب لبسها، ومن أي قماش. . طبعاً دخلت المنتجات الحديثة على اختلافها إلى البلدان الأوروبية ولكن كانت كلها عموماً، حتى البسكويت أحياناً، مستوردة، فهي منحة الإنتاج العالمي، ومن الجملة إنتاج البترول، للبلدان المذكورة: لولا إنتاج البترول، لبقي الناس يعيشون في «غير ذي زرع».

وإنتاج البترول غذى «الجهاد» الأمريكي ـ الأفغاني، فلولاه ماكان لذلك الجهاد وجود. ففي الثلاثينات والأربعينات كان ثمة حاجة للجهاد ضد الغزو الصهيوني لفلسطين، أو بشكل أدق للمنطقة العربية، غير أنه لم يكن موجوداً، إلا في حدود ضيقة، بالعكس كان النشاط الأصولي عموماً لصالح الغزو عبر الأنظمة الرجعية التي كانت قائمة.

الأموال البترولية خلقت الجهاد الشرس، ولكن لا لمصلحة وطنية في أي مكان.

الإسلام نقل القبائل العربية المتناحرة من الجاهلية إلى التطور، فالإمبراطورية الإسلامية الأموية والعباسية، استوعبت علوم الأولين اليونانية والرومانية والهلنستية، وكانت متطورة أكثر من نظيراتها، أما زعماء الأصوليين الذين ينشطون باسم الإسلام، فإنهم ينقلون المسلمين من التطور والتطور النسبي إلى «الجاهلية» وإلى التناحر الخطر الذي أودى بالملايين في السودان وبالآلاف في مصر وبعشرات الألوف في الجزائر والحبل على الجرار.

حتى الجهاد الموجهة حربته ضد أمريكا، فإنه ليس موجهاً ضد الإدارة الأمريكية، ولاضد عدوانيتها الاستعمارية، وإنما ضد «الكفر» والفرق كبير بين الأمرين، «الكفر» في تعريف الأصوليين يشمل جميع من ليس تحت لوائهم، أي يشمل جميع سكان العالم ماعداهم، يشمل الأمريكيين الصالحين منهم والطالحين، فهم أعداء لا لأنهم مع عدوانية الإدارة الأمريكية، وإنما لأنهم أمريكيون، الشعوب الأخرى أيضاً، الروس، الألمان، الفرنسيون. . . إلخ، هي شعوب كفر. كذلك هم المسلمون غير المرضي عنهم.

الإدارات العربية تتبنى الطائفية، لأنها موالية للإدارة الأمريكية، لذا نجد الفضائيات العربية على اختلافها تسبح ليل نهار بالطائفية ـ الرؤساء (أو الملوك) مؤمنون، ولذلك هم رؤساء، وتعبر وسائل الإعلام لديهم عن إيمانهم بمختلف البرامج الدينية. ولايؤثر على إيمانهم ولا على كونهم مؤمنين، لا القمتع، ولا الفساد في البلد، ولاتدني المستويات المعيشية، ولا السياسات الملتوية الداخلية والخارجية التي ينتهجونها، فالإيمان يريدونه أن يكون غطاء لكل المثالب المعروفة وغير المعروفة،غير أنه مع تصاعد الأصولية تبين أن ثمة إيمان وإيمان، وأن إيمان الرئيس «المؤمن» لايقيه من هجمة إيمان مخالف.

في الماضي كان الأمر كذلك، فقد كان الصراع على الخلافة يجري باسم الإيمان، ففي البداية كان ثمة صراع بين قريش والأنصار، وانتهى بهدوء لصالح قريش، ثم أتى الصراع مع «المرتدين» وانتهى أيضاً لصالح المركز القرشي، ثم كان الصراع في قريش ذاتها بين الأمويين والهاشميين، وربح الصراع في النهاية معاوية لصالح الأمويين، واستمرت الحال ِإلى أن تمزقت الإمبراطورية الإسلامية وانتهت الأمور إلى السلطنة العثمانية.

الطوائف الإسلامية نتجت عن تاريخ التمزق الطويل في الإمبراطورية الإسلامية، والآن الصراع ليس على الخلافة وإنما على  لاشيء، ونتيجة التفعيل الأمريكي ـ البترولي، قبل ذلك التفعيل كانت الطوائف الإسلامية وغير الإسلامية متعايشة في المنطقة العربية، صحيح أن هذا الزعيم أو ذاك كان يرفع ورقة الطائفية من أجل مكسب سياسي ما، ولكن لم يكن ذلك عدوانياً  يؤذي الطوائف الأخرى.

الآن في الزمن الأمريكي شراسة، وصراعات طائفية دموية توظفها الإدارة الأمريكية، ووظفتها لتدمير أفغانستان، وتدمير العراق، البلدين الذين يحتاجان لزمن طويل بعد طرد الاحتلال كي تندمل جراحهما، ولتمزيق يوغسلافيا ولزعزعة بلدان آسيا الوسطى، وروسيا، ولتنفيذ مخططات قذرة لاحصر لها، وللهجوم على الكنائس في الإسكندرية وعلى المساجد والكنائس في العراق وفي الأراضي المحتلة.

الإيمان قوة روحية واستخدمته الإدارة الأمريكية حتى الآن للتخريب في كل مكان، ويتساءل المرء متى سيمسك المؤمنون بهذه القوة، ليوجهوها  ضد الإدارة الأمريكية ولصالح بلدانهم.

من دون ذلك تبقى الصراعات مستعرة، ويبقى تدمير المجتمعات مستمراً.

آخر تعديل على الجمعة, 21 تشرين1/أكتوير 2016 12:03