ابراهيم البدراوي ابراهيم البدراوي

لستم وحدكم في هذا العالم

ما فعله محمود عباس بالنسبة لتقرير «غولدستون» لم يمثل مفاجأة. إذ تمت جريمة الخيانة هذه في إطار سياق ما آل إليه حال الصراع العربي– الإسرائيلي من تردٍ. مشهد التردي واضح لكل عين. الجديد فيه أن عباس ضبط متلبساً بالجريمة «الكاملة» تحت سمع وبصر شهود من أركان الدنيا الأربعة، رغم أنها ليست الجريمة الأولى ولن تكون الأخيرة طالما استمر على وضعه الراهن.

المفارقة أن مسيرة التردي قد بدأت في لحظة من لحظات الشموخ العربي، وبعد أقل من 24 ساعة على العبور الاعجازي الذي أنجزه الجيش المصري يوم 6 أكتوبر 1973، وفي الوقت الذي انفجر فيه نحيب وبكاء قادة الكيان الصهيوني خوفاً وهلعاً. إذ كانت نصيحة «بن جوريون» بأن هزيمة واحدة سوف تبدد  دولتهم. وبينما كان ذلك يتم كان «السادات» يتصل هاتفياً بوزير الخارجية الأمريكي الصهيوني «هنري كيسنجر» في شأن أفق الحرب رغم أن العلاقات بين مصر وأمريكا كانت مقطوعة.

محطات عديدة بعد ذلك أبرزها: زيارة السادات للقدس، ثم معاهدة كامب ديفيد، ثم اتفاقية القاهرة عام 1979 التي أخرجت مصر الرسمية من معادلة الصراع.. وتعمق التردي باتفاقية أوسلو التي جرت من خلف ظهر الشعب الفلسطيني وكل فصائل المقاومة (رفاق السلاح) ولكن بمشاركة حزب الشعب الفلسطيني، الشيوعي سابقاً وحده.. كما أبرمت اتفاقية وادي عربة بين العدو والحكومة الأردنية، وما تلا ذلك لتكريس نهج الاستسلام والتخلي عن المقاومة  بحثاً عن حل مستحيل يقدمه السيد الأمريكي.

إن نتائج مسيرة التردي العربي قد شكلت منظومة كاملة تبنتها القوى العميلة في بلداننا:

التخلي عن «الهدف النهائي»، إذ لم يعد ذلك الهدف موجوداً، والذي يتمثل في تحرير فلسطين (إنقاذاً للمنطقة كلها من المشروع الصهيو– امبريالي). وهو موقف عدمي لم يحقق أي شيء إيجابي على الإطلاق.

السعي لسلام زائف مع العدو الذي كان يستجدي السلام من العرب حتى حرب 1973. وتحول العرب إلى استجداء سلام لا مثيل له. أي استسلام أبدي يتم تكريسه بأفعال عربية على الأرض تجهض وتنهي كل عناصر القوة الشاملة للطرف العربي (كما حدث في مصر) من وقف للتنمية وإطلاق العنان لطبقة رأسمالية تابعة ونهابة وفاسدة تشكل قاعدة اجتماعية خادمة للامبريالية والصهيونية. خصخصة الاقتصاد وتدمير الأصول خاصة الإنتاجية بما يمكن رأس المال الامبريالي والصهيوني من التحكم من جديد في مقدرات البلاد بعد أن انفتحت أمامه كل الأبواب.

تدمير الثقافة الوطنية والوعي الوطني والاجتماعي . تدمير الهوية والانتماء، الخ. والأهم تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني بما يمكنه من تخلل مسام الوطن كله، وصولاً إلى حماية «العدو الصهيوني» والاحتماء به.

إن المشهد العربي (والعالمي) يوضح بجلاء أن دور العملاء المحليين قد تصاعد بدرجة غير مسبوقة. إذ تحولوا إلى «رأس حربة» للعدو. ويؤكد ذلك أن العملاء المحليين في الماضي كانوا يتوارون ويراوغون في قيامهم بأدوارهم. أما الآن فإنهم يعملون «بشفافية!!» وفي وضح النهار. ولعل ما حدث منهم ضد المقاومة في ذروة المواجهات مع العدو الصهيوني في لبنان وغزة بتحريض العدو ومساندته والهجوم المجرم الدنيء على المقاومة نهجاً ومنظمات وقادة وأفراداً دليل ساطع على ذلك.

إذا كان إقليمنا العربي– الإسلامي هو المنطقة الأكثر سخونة في العالم في ظل احتدام الصراع بين شعوبنا والامبريالية والصهيونية، وحيث يجري في ظل اندماج استراتيجي أمريكي– إسرائيلي، وهو ما يمثل علاقة لا نظير لها بين دولتين، وتتجاوز أقصى حد علاقات التحالف الاستراتيجي المعروفة بين الدول، وإذا كان دور العملاء المحليين قد ازداد بدوره، فإن الأمر في الحالة الفلسطينية يضع أمام الأشقاء استحقاقات مبدئية ثلاثة:

حيث لا يمكن إغفال تاريخ ودور حركة فتح، التي ناضلت وطوردت (في إطار مطاردة الفصائل الفلسطينية كافة) قبل أن تجري عملية تدجينها. كما مورس ضدها أعتى إرهاب بتصفية العديد من قادتها، وإبعاد من بقي منهم عن مواقع التأثير (المناضل فاروق القدومي نموذجاً) وأسر البعض– وهو ما جرى لكل فصائل المقاومة– وذلك بهدف اخلاء القيادة لعباس وزمرته. وحيث أن فتح بهذا الحجم والتاريخ لا يمكن أن توضع كلها في سلة واحدة ولابد أن فيها دائرة واسعة من الكوادر الثورية المنحازة كلية لشعبها ووطنها في المستويات الوسطى والدنيا، وهو ما يضع على عاتقهم استحقاقاً مصيرياً هو عزل «عباس وزمرته» وإعادة فتح إلى دورها المقاوم حتى لا تخرج تماماً من التاريخ دون عودة.

كما تضع المرحلة على فصائل المقاومة بمختلف اتجاهاتها الفكرية استحقاق الحسم الجمعي لخيار وحيد هو المقاومة، على قاعدة التوحد حول برنامج نضالي واضح المعالم للتحرر الوطني والعدل الاجتماعي (إذ لا يمكن فصم أحدهما عن الآخر). ذلك أن غياب الأفق الاجتماعي لا يمثل فحسب نقيصة كبيرة في عمل الثوار، ولكن هذا الغياب سوف يعيق توحيد الموقف والفعل الثوري المقاوم. وتكتمل وتتعزز العودة الحاسمة الى خيار المقاومة بالابتعاد عن الصراع على «السلطة الوهمية» أو الدوران حولها طالما البلاد تحت الاحتلال، وحيث رئيسها لا يستطيع عبور شارع إلا باذن العدو. والبديل لهذه السلطة الوهمية هو «مجالس إدارة ذاتية» تدير شؤون الفلسطينيين بقيادة فصائل المقاومة.

وأخيراً، ضرورة الخروج مما صاغته الحالة العربية الرسمية من تغييب قسري للهدف النهائي وهو تحرير فلسطين كلها من العصابات الصهيونية، وهي عملية شاقة ومعقدة وقد لا يمكن اتمامها دفعة واحدة (وقد تتم بحماقة يرتكبها العدو). لذا فإنه لايجب إطلاقا أن تحجب المناورات السياسية أو الأهداف المرحلية هذا الهدف النهائي المقدس. إن غياب الهدف النهائي لأي نضال يفضي إلى «العدمية»، وقد لمسنا ذلك على مدى ثلاثين عاماً.

إن العدو يلتهم قدسنا وأقصانا وما تبقّى من فلسطين. ثم شرقها وغربها وشمالها وجنوبها إذا لم تتم إزالة هذا الكيان. لقد كانت فلسطين دوماً هدفاً للغزاة، ولكن على أرضها اندحر الصليبيون، وتحت أسوار عكا بدأت هزيمة نابليون بونابرت، وعلى تلالها وفي وديانها تبلورت فكرة ثورة 23 يوليو 1952.

ندرك الصعوبات الهائلة أمام النضال الفلسطيني. لكنكم لستم وحدكم في هذا العالم.