الهبّة الشعبية الفلسطينية في عامها الأول

الهبّة الشعبية الفلسطينية في عامها الأول

سقط رهان الكثيرين ممن راقبوا وحللوا، تارة، بالعقل السياسي، وأحياناً، بالمتابعة الأمنية (وغالباً، باندماجهما سويةً) على تحلل وموت الحراك الشبابي الفلسطيني الذي انطلقت موجته الأولى في نهاية أيلول، وأوائل تشرين الأول لعام 2015. 

انطلق المراهنون- وما أكثرهم- للتأكيد على صحة توقعاتهم استناداً إلى عوامل عدة:

حسابات المراهنين على موت الحراك

- سياسة القمع الوحشي للغزاة المحتلين في التعامل مع الشرارات الأولى التي أشعلت النار في بنية المحتل: المستعمرون، خاصة مع عملية «إيتمار»، وما حققته العملية البطولية الفردية التي نفذها الشهيد، مهند الحلبي، في مدينة القدس المحتلة.

- التنسيق الأمني، الذي توفر من خلاله سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود، الرصد والمتابعة والاعتقال للمناضلين والمناضلات «فتية وفتيات، شباب وشابات، بعمر الورود» من طلبة المدارس والجامعات. 

وكانت- وماتزال- قيادات السلطة السياسية والأمنية، تجدد الإعلان بوقاحة موصوفة، عن «بطولاتها» في اعتقال المئات، وإحباط عشرات العمليات الفدائية، والعثور على السكاكين في حقائب الطلبة والطالبات. ومازالت مقابلة رئيس السلطة مع إحدى القنوات الفضائية للعدو الصهيوني، التي أعلن فيها أن «الأمن عندنا يدخل المدارس لتفتيش شنط الأولاد، ومعرفة إذا في سكاكين أم لا. يجب أن يكون بيننا تعاون أمني، وأنا أتابع تنفيذ هذا التعاون.. أنا لا أخجل من هذا»، حاضرة في ذاكرتنا.

وتنفيذاً لهذه الوظيفة، اعتقلت أجهزة التنسيق الأمني «المقدس»، كما يردد رئيس سلطة الحكم الذاتي، ما يقارب 1200 مواطناً ومواطنة على خلفية تنفيذ أو الإعداد لعمليات فدائية، والمشاركة بنضالات المقاومة، ضد الغزاة المستعمرين.

- عجز بعض القوى والفصائل عن المشاركة بالحراك الشعبي، وبتنفيذ العمليات الفدائية الفردية. بعض المحللين الذين تحدثوا عن «يُتم» الحراك الشبابي، وأبطال عملياته النوعية، انطلقوا من صمت القوى الفاعلة- رغم تفاوت حجم الوجود والانتشار- تجاه تبني العمليات، أو الزج بأعضائها وكوادرها لتتقدم الصفوف الأولى بالمواجهات. تفسير هذا الموقف يأتي من تقديرات وحسابات ذاتية، يقع في مقدمتها، الخشية على وجود القوى والفصائل، في ظل نشاط تنظيمي وسياسي أتاح كشف العديد من البنى الداخلية، من بطش المحتلين أو عناصر التنسيق الأمني.

لكن ذلك لا يمكن أن يدفع التحليل لنهايات غير موضوعية، تحمل من التجني على الفصائل، أكثر مما يحتمله النقد الثوري لدورها، خاصة، وأن البيئة المجتمعية التي انطلق منها قادة المواجهات الميدانية، وأبطال/ بطلات العمليات الفردية، هي تراكمات النضال الوطني التحرري للشعب العربي الفلسطيني، بروايته/ سرديته الكفاحية، وتجاربه السياسية والتنظيمية «الحزبية/ الحركية» المستمرة منذ عقود عدة.   

الهبة ما بين الكمون والتحرك

تراوحت موجات الهبة على مدى العام المنصرم من عمرها، ما بين التهدئة/ الكمون، لأسابيع أو أشهر، وما بين تحركها/ تجددها، من خلال عمليات فردية متلاحقة كما حصل في شهر أيلول الماضي. 

خلال ثلاثة أيام، تم الإعلان عن ثمانية عمليات طعن ودعس، كانت حصيلتها سقوط ستة شهداء وثلاثة جرحى. عدد من المحللين الصهاينة، رأوا في التهدئة، فترة «هدوء وهمي»، وهذا ما عَبّر عنه المحلل العسكري لصحيفة «يديعوت احرنوت» الصهيونية، أليكس فيشمان، بمقالته التي كتبها بعد اندلاع الموجة الجديدة من العمليات: «ينبغي الإقرار بالواقع: أحدٌ في المؤسسة الأمنية لا يمكنه أن يشرح لماذا اندلعت في نهاية الأسبوع الماضي بالذات موجة خمس عمليات متواصلة في مناطق مختلفة. ولكننا مرة أخرى تلقينا تذكيراً بحقيقة أن الهدوء في الضفة مؤخراً هو هدوء وهمي، تحته لهيبٌ يعتمل لجيل شاب مستعد لأن يخرج لعمليات تضحية». 

هذا الجيل الذي جعل جيش الغزاة المحتلين وأجهزتهم الاستخباراتية والأمنية كافة تفقد مبادرة إحباط أية عملية، وبالتالي، تفشل في تأكيد ذاتها التي بنت «أمجادها» عليها طوال عدة عقود، بما يعرف بـ«قوة الردع». تحول عساكر الاحتلال إلى عناصر شرطة تطارد المتظاهرين، تختبئ من حجارتهم، وتقف عاجزة أمام طعنات سكاكينهم وطلقات رصاصهم كما حصل في «تل أبيب».

ويتضح ذلك في تصريح لمصدر في شرطة العدو (صحف العدو 19/9/2016) عن ضرورة تجنيد (1200) شرطي في مدينة القدس لـ«فرض الأمن»، من خلال زيادة عدد الحواجز، والدوريات، كخطوة استباقية لاندلاع أية مواجهات جديدة. لكن قيادة الشرطة لم تستطع تجنيد أكثر من مائتي شرطي، بسبب رفض أعداد كبيرة منهم الخدمة في المدينة، خوفاً من عمليات الطعن والدهس التي ينفذها الشباب الفلسطينيون.

جردة حساب بالأرقام

بالرغم من استدعاء حكومة العدو لثلاث عشرة كتيبة احتياط من الجيش، لضمان قمع انتفاضة الشباب، فإن تلك الآلاف من الجنود المدججين بكل أنواع المعدات والسلاح، فشلت في إعادة «الأمن» للمستعمر والمستعمرات. وقد نشرت القناة العاشرة في تلفزيون العدو، تقريراً حول حصيلة الخسائر البشرية منذ بداية الحراك الشعبي قبل عام من الآن.

جاء في التقرير: إن حصيلة القتلى والجرحى- الصهاينة- تصل إلى 498 شخصاً، بينهم 40 قتيلاً، و458 جريحاً، منهم 42 أصيبوا بجروح خطيرة، و12 بجروح معتدلة إلى خطيرة، و75 بجروح متوسطة، و18 خفيفة إلى معتدلة، و311 بجروح طفيفة. لكن موقع «فلسطين نت» يشير إلى جرح 751 خلال 485 عملية نفذها الفلسطينيون، وقعت معظمها في الضفة الغربية المحتلة.

أما خسائر الشعب الفلسطيني فقد بلغت 250 شهيداً، والآلاف من الجرحى، خلال المواجهات التي شهدتها أكثر من (6275) نقطة اشتباك. كما أن أعداد المعتقلين في مراكز وسجون الاحتلال بلغت آلاف عدة خلال عام واحد من مسيرة الحراك الشعبي.

عوامل استمرار

 الهبة الشعبية

جاءت العمليات البطولية الفردية، وأشكال المواجهات الأخرى في ميادين وساحات المدن والقرى والجامعات، كحلقة في سلسلة طويلة من المعارك الوطنية التي خاضها الشعب الفلسطيني منذ نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، مع بناء أول مستعمرة لليهود الصهاينة فوق أرض فلسطين العربية. 

ولهذا، فإن حديث البعض عن «هبة طارئة» أو «فشة خلق» لجيل يائس ومحبط، لا يعدو لغواً مشبوهاً، يصب في خدمة المحتلين. إن وجود الغزاة المحتلين الذين يقومون بمصادرة الأراضي وبناء المستعمرات أو توسيع القائم منها، وقطع الشجر، وتدمير البيوت، وإغلاق الطرق، واستباحة الأماكن الدينية، وآلاف الأسرى، واحتجاز جثامين الشهداء، تتفاعل جميعها لتوفر العامل الموضوعي للمواجهة. 

إن هذا الجيل الشاب الذي انتفض، أعاد تصويب البوصلة، في الفكر والميدان، بإصرار كامل على  رفض نهج «المفاوضات حياة»، حيث لا حياة كريمة مع الاستسلام والتنازل عن أرض الوطن. كما جدد التأكيد في شعاراته وهتافاته، في المظاهرات وفي أثناء تشييع الشهداء، على أن المقاومة وحدها هي التي تزيل المستعمرات، وتحرر الأسرى، وتدمر الجدار، وتفتح الطريق نحو تحرير الوطن وتحرر الإنسان.

هذا الجيل يحمل على أكتافه الشهداء، فقط، ولا يتنكر لتضحيات من سبقوه من أفراد وقوى وحركات، ولا يجعل من نضالاته ودمائه، بازاراً لكل المدّعين والمشبوهين، الذين يحاولون سرقة تضحياته، من خلال بيانات مشبوهة تحمل توقيعاً لتشكيل وهمي «الجبهة الوطنية الميدانية الموحدة» تقف وراءها حفنة ممن عرفوا بأصحاب «صرخة من الأعماق».

خاتمة

لن أعيد تكرار ما كتبته خلال العام المنصرم عن شروط تحول الهبّة إلى انتفاضة شعبية واسعة، لكن ما يجب التأكيد عليه الآن، هو ضرورة بناء أدوات كفاحية جديدة، تتشكل من شباب وشابات الهبة الشعبية، ومن القوى والكفاءات والإطارات الوطنية، داخل الوطن وخارجه، لقيادة المعركة الوطنية بعد سقوط «قيادات وقوى وإطارات» في حفرة التنازلات المستمرة، التي لا قاع لها.