لبنان... أزمة حكم أم أزمة نظام؟
يتفق معظم اللبنانيين على أن وطنهم يغرق في أزمة مركّبة شاملة وعميقة. ليست هذه الأزمة وليدة حدث عابر، ليست وليدة عدوان تموز والتصدي لهذا العدوان. وليست نتيجة الوجود السوري السابق كما يحب البعض أن يتوهم. وليست نتيجة الاحتلال الصهيوني عام 1982 وما استدعاه من حرب أهلية ومقاومة، بل إنها نتيجة سياسات اقتــــــصادية ومالية ونقـــــــدية كانت لها آثار اقتصادية واجـــــــتماعية كارثية. ومن المؤسف أن فريقاً لبنانياً حاكماً يعتقد أن طريق الخروج من الأزمة هو عبر الاستمرار في السير على الطريق التــــــي أوصـــــلت إليها، وهــــذا هو الغباء بحد ذاته.
فالأزمة لا تقتصر على تركيبة الحكومة اللبنانية وانعدام شرعيتها، بل إن الحكومة الحالية، بتجاوزها الدستور، وبتعطيل مؤسسات المراقبة والمحاسبة، وبتجاوزها للقوانين والأنظمة، بفسادها، بعجزها، بتبعيتها للخارج، بتنكّرها للمصالح الوطنية وعملها على استتباع لبنان لمراكز النظام الرأسمالي العالمي ووكلائه المحليين من القناصل، تعبّر عن أزمة طبقة حاكمة فقدت دورها التاريخي، وتعمل جاهدة وبيأس لاستعادة هذا الدور واستمرار إمساكها بالسلطة.
ولهذا الدور التاريخي وجهان، وجه سياسي ووجه اقتصادي اجتماعي. والوجهان متلازمان. فالتوجّه السياسي للسلطة الحاكمة في الداخل والخارج، في موقفها من المقاومة وسلاحها كما في السياسة الخارجية الموالية للعدو الإمبريالي الصهيوني لا تنبع من سوء فهم أو تقدير أو إدراك، ولا تنبع من شطط في التفكير، بل تنبع من طبيعة الترابط المصلحي مع هذا الخارج والخوف على مصالحها من فكر المقاومة وسلوكها ونهجها الهادف إلى تحرير الأرض والإنسان، ويستدعي بالتالي تحقيق الديموقراطية الحقيقية كما التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية. وكلمة إمبريالية هنا ليست شتيمة، وليست « لغة خشبية » كما يفهمها بعض « المرتدين » عن الفكر الاشتراكي العلمي، بل هي توصيف علمي لنظام رأسمالي عالمي في مرحلته الأكثر احتكارية وعولمة، بقيادة المركز الأميركي المهيمن وبشبكة من المؤسسات المالية الدولية في ظل فكر نيوليبرالي مهيمن.
يمثّل الحكم في لبنان مصالح الطبقة المالية التجارية الحاكمة، من وكلاء الشركات الأجنبية، الحصرية منها وغير الحصرية، ومن أصحاب المصارف التجارية المنحدرين من جذور المرابين والصيارفة، ومن المقاولين الحصريين وأصحاب الاحتكارات الداخلية في كل القطاعات. تمتد جذور هذه الطبقة إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، منذ إنشاء نظام المتصرفية وإلغاء النظام الإقطاعي في جبل لبنان. فقد ركّزت الدول الاستعمارية الغربية، وفرنسا بشكل خاص، جهودها لبناء مدينة بيروت قاعدة وموطىء قدم لزحفها وسيطرتها على الداخل العربي. بنت بيروت المحاطة بجبل معظم سكانه من مؤيديها، مركزاً مالياً تجارياً وخدماتياً، فطورت المرفأ والبنية التحتية وربطت بيروت بمواصلات واتصالات مع الغرب من ناحية والداخل العربي من ناحية أخرى.
ما هي طبيعة النظام اللبناني؟ ربما كان فيلسوف النظام ميشال شيحا هو خير من يوصّفه. فلبنان حسب شيحا ليس وطناً بالمفهوم المتعارف عليه، بل هو جسر، محطة، متجر، مخزن، فندق، وكل هذا إن شئت. هو وطن بشكل ما، قوته في ضعفه، أي باستدعائه المحتل، باستتباعه. في ذلك يقول إدوار حنين « لبنان إذا استقل يهتز وإذا استتبع يعتز »، والاستتباع يكون طبعاً للمركز الرأسمالي الغربي المهيمن.
ويعتقد شيحا أن اللبنانيين هم تجار بالفطرة. هم من سلالة التجار الفينيقيين وورثتهم. هم أرفع وأسمى من أن يمارسوا الزراعة والصناعة. عليهم أن يتركوا العمل اليدوي للشعوب الأخرى الأقل منزلة. والنظام اللبناني نظام حر، يؤمن بحرية العبادة والتجارة، و« حرية » الهجرة لأبنائه. أما الديموقراطية فشكلانية، والولاء للطوائف قبل الوطن. بل إن الوطن هو عنقود طوائف ومذاهب، والانتماء إلى الوطن يمر حكماً عبر الطوائف والمذاهب وزعمائها التقليديين.
إن هذا النظام مكّن لست وثلاثين عائلة أن يحكموا لبنان، بأموالهم واحتكاراتهم وبوكالاتهم التجارية والسياسية عن الخارج، وبالتشبّث بالنظام الطائفي الحاجب لوعي الجماهير لمصالحها الحقيقية، ومنعها من الاصطفاف وراء مصالحها لتحقيق تمثيل نيابي حقيقي.
إبان عهد الانتداب، كان بنك فرعون وشيحا يوصل أكثر من نصف النواب إلى البرلمان ويتحكم بهم. وفي عهد الاستقلال وحتى أواسط الستينيات، كان بنك إنترا يدفع رواتب شهرية لخمسة وستين وزيراً ونائباً لبنانياً ويتحكم بهم. ولكن عندما غضب السيد الأميركي على يوسف بيدس، انفض السياسيون اللبنانيون من حوله، ودُفع بنك إنترا قسراً إلى الإفلاس. وفي يومنا الحالي، أكثر النواب والوزراء هم أعضاء مجلس إدارة أو وكلاء للمصارف أو للاحتكارات الكبرى، يُتحكّم بهم كما في العهود السابقة.
إن مصالح هذه الطبقة الحاكمة تتناقض مع مصالح الأكثرية الساحقة من الجماهير. فهذه الطبقة معادية للصناعة، ومعادية للزراعة، بل إنها عقدت اتفاقات اقتصادية مع الخارج لإغراق السوق المحلية بالسلع المدعومة. ومثال على ذلك اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، التي مُرّرت قبل خمس سنوات ونيف من وراء ظهر الجماهير وعلى حساب مصالحها الاقتصادية الحقيقية. وقد كشفت هذه الاتفاقية التي بُدئ تطبيقها منذ شهور عدة، قطاعَ الزراعة في لبنان أمام الزراعة الأوروبية المدعومة بنسب عالية، ويصل دعم بعض السلع الزراعية لأكثر من خمسين في المئة من ثمنها، ويربو معدل دعم جميع السلع الزراعية الأوروبية على 35%، وتدخل هذه السلع الأوروبية السوق اللبنانية بجمارك لا تزيد على 5% حسب اتفاقية الشراكة. كل بقرة أوروبية تنال دعماً قدره 2.5$ في اليوم، فكيف يستطيع المزارع اللبناني مثلاً منافسة الحليب الأوروبي ومشتقاته أو اللحوم الأوروبية الطازجة والمصنّعة، أو المواد الغذائية الأوروبية المعلّبة وغير المعلّبة؟ كيف يستطيع الصانع اللبناني أن ينافس في سوقه المحلية منتوجات الصناعات الأوروبية العريقة والغنية بالخبرات والعالية التقنية، والتي تنال دعماً حكومياً كبيراً وتحظى بحمائية عالية؟ لماذا تسد طرق الصادرات الزراعية اللبنانية إلى أوروبا حسب اتفاقية الشراكة مع أوروبا وتقونن وتحصر بكميات محددة ويسمح بإدخالها إلى السوق الأوروبية خلال أشهر محددة حتى لا تزاحم المنتوجات الأوروبية المماثلة أو الموازية مثل العنب والتفاح والبطاطا والزيت والزيتون؟
هذه الطبقة وضعت أثقل الضرائب على عاتق الطبقات الفقيرة والمحدودة الدخل، وأعفت الأغنياء من عبء الضرائب المباشرة.