الصومال بين مطرقة التناحر الداخلي وسندان التدخل الإقليمي والأمريكي
بعد التدخل الإثيوبي للإطاحة بحكم ما يسمى بالمحاكم الإسلامية في الصومال المنهك بالاقتتال الداخلي المرتبط بالمطامع والمخاوف الخارجية جاءت الغارات الجوية الأمريكية على جنوبي البلاد في التاسع من الشهر الجاري والتي أودت بحياة عشرات المدنيين لتشكل مفصلاً جديداً في مسيرة الصراع داخل الصومال وعليه.
وتعليقاً منه على أول تدخل عسكري علني مباشر للجيش الأمريكي بالصومال منذ انسحابه في آذار 1994 إثر مقتل 18 جنديا أمريكيا في معركة دامية بمقديشو أوائل تشرين الأول 1993 رأى الرئيس الصومالي الانتقالي عبد الله يوسف أحمد أن «من حق الأمريكيين شن غارات على ما أسماها مواقعا لتنظيم القاعدة في بلاده وفي أي مكان في العالم» متذكراً بعد سنوات طويلة «أن منفذي الهجومين على السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998 كانوا موجودين في جنوب الصومال، وأن هذا ما ينبغي القيام به، وكان الوقت مناسبا لشن هذه الهجمات».
وبينما أرسلت قيادة الأسطول الأمريكي الحاملة أيزنهاور من الخليج العربي إلى المحيط الهندي للانضمام إلى ثلاث سفن حربية أمريكية تنفذ ما أسمته البحرية الأمريكية عمليات ضد الإرهاب عند السواحل الصومالية ذكرت تقارير إخبارية وصحفية أن القوات الحكومية الصومالية المدعومة بالجيش الإثيوبي واجهت صعوبات في ملاحقة مقاتلي المحاكم الإسلامية في مناطق الأحراش فاستعانت بالدعم الجوي الأمريكي، في حين سبق لإثيوبيا أن اعترفت الشهر الماضي بأنها استعانت بدعم استخباراتي أمريكي في المعارك التي خاضتها قواتها وانتهت بانسحاب مقاتلي المحاكم من مقديشو باتجاه الحدود الكينية، علماً بأن الاضطراب لا يزال سيد الموقف في العاصمة.
وتدور الأحاديث الدبلوماسية حالياً في القارة الأفريقية السمراء حول سبل تشكيل قوة حفظ سلام أفريقية لإقرار الأمن في الصومال وسط دعوات من جامعة الدول العربية للانسحاب الفوري للقوات الإثيوبية من الصومال وما يقابلها من دعوات من رئيس الحكومة الانتقالية لتلك القوات للبقاء بهدف تدريب القوات الإثيوبية، بعد أن «أعربت» واشنطن بلسان مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية جنداي فرايزر «عن أملها في انتشار قوة دولية في الصومال نهاية الشهر الحالي... (..) ليبدأ مسيرة المصالحة ولا يعود مرة ثانية إلى عهد زعماء الحرب، متعهدة بأن تبذل بلادها قصارى جهدها (في هذا الإطار) لكن سيكون على الصوماليين إيجاد حل لمشاكلهم».
وبعيداً عن هذا الهراء يؤكد عدد كبير من المراقبين أن الصومال إنما يشكل امتداداً لمشروع الشرق الأوسط الكبير، فلماذا؟
يقول الباحث كاظم محمد إن هذه المنطقة من أفريقيا وخاصة القرن الإفريقي تكتسب أهمية في حسابات المصالح الاستراتيجية الأمريكية ومصالح الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي وحرب المياه الخفية، وخاصة ما يتعلق بمضيق باب المندب كممر بحري حيوي، والذي تشرف عليه اليمن من الجهة الشرقية وجيبوتي و أريتريا من الجهة الغربية، إضافة إلى منابع نهر النيل الأزرق في المناطق الممتدة من بحيرة تانا في الهضبة الإثيوبية. أما الصومال فيمتلك الموقع الاستراتيجي والثروات الطبيعية كاليورانيوم والغاز الطبيعي والنفط الذي تقدر بعض التقارير بأنه موجود بكميات تجارية كبيرة، إضافة إلى النحاس والقصدير والملح والثروة البحرية الهائلة، حيث يمتد الساحل الصومالي لأكثر من 3000كم، والتي تتعرض للنهب من قبل الدول الكبرى، بحكم ضعف الدولة وفقدان أسس البناء التحتي لمقوماتها التنموية والسيادية.
أصبح هذا البلد بمساحته الواسعة التي تزيد عن 600000 كم مربع، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تحت الاحتلال والاستعمار المباشر وبأجزائه الجغرافية المختلفة، حيث صار الصومال الشمالي تحت السيطرة البريطانية، والجنوبي تحت السيطرة الايطالية، إضافة للجزء الفرنسي الصومالي، أما إقليم (أوغادين) الصومالي والذي يقع غرب البلاد فقد تنازلت بريطانيا عنه لأثيوبيا سنة 1948، وهذا جزء من السياسة البريطانية المعروفة لإبقاء بؤر التوتر والنزاعات قائمة ما بين دول الشقاء هذه.
لقد كانت اثيوبيا وطوال عقود مضت، تعمل جاهدة على عدم قيام حكومة مركزية قوية، تستطيع لملمة شتات هذه البلاد المحطمة، فعملت على إيواء أمراء القبائل المناوئين لسياد بري، بعد فشل حرب تحرير اوغادين 1978، وسلحت ودعمت هؤلاء عند الإطاحة بسياد بري، وشجعت على تقاسم المناطق بين أمراء الحرب في مختلف المناطق الصومالية، إضافة إلى دفع الكثير منهم لمناوئة الحكومة الأرتيرية نيابة عنها، بعد أن تم ترسيم الحدود بينهما وحرمان إثيوبيا من الحصول على منفذ بحري.
وارتبطت المخاوف الإثيوبية دائماً بقضية اقليم اوغادين الصومالي والمقتطع لصالحها، وبنفس الوقت خوفها من التمدد الإسلامي تحت راية حكومة موحدة قوية في الصومال، وتأثيره على مسلمي إثيوبيا ومن ثم على طبيعة تركيبة السلطة الحاكمة هناك.
والتقت هذه المخاوف مع الرغبة الأمريكية الجامحة في تامين منطقة القرن الأفريقي كمنفذ استراتيجي لمخزون الطاقة، وممر بديل لضرب الحلقات الناشئة والمراكز المحتملة للقاعدة كما تدعي، وهي في الحقيقة تعني ضرب وإنهاء أي سلطة وطنية محتملة، تتخذ من الاستقلال والسيادة وتحت أي مظلة، كمبادئ لبناء دولتها بعيداً عن الإملاءات الأمريكية ورغبات قادة البيت الأبيض.
إن مؤشرات النهج الأمريكي لطغمة المحافظين الجدد في الشرق الأوسط عموماً، لم تختلف عنها في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية، ويمكن الاستدلال عليها من كونها مرتبطة بمنهجية عقلية القطب الأوحد الذي يشرب من عقيدة رأس المال في جشعه ونهمه في السيطرة والاستغلال، ولذلك فأن سياساته هي تعبير عن هذا النهج الذي لا يتورع في إشعال الحروب المباشرة أو بالوكالة، وخلق الفتن المذهبية والطائفية، واللجوء إلى التفكيك والتفتيت، واستغلال (الشرعية الدولية) المأسورة لتمرير الغايات والأهداف المطلوبة.
لم يبتعد السيناريو الجاري في الصومال عما تمت الإشارة إليه. فالحكومة المؤقتة، والتي اكتسبت شرعيتها من مجموعة إيغاد والتي تضم دولاً إفريقية، هي أصلا لها مشاكل مزمنة مع الصومال، لا تملك أي سيطرة حقيقة على الأرض، وهي جزء من المشكلة، لأنها تتكون من أطراف الصراع الأهلي الدموي الذي أدى إلى قتل الألوف من السكان، وهؤلاء نفسهم من حول البلاد إلى إقطاعيات مافيوية ترزح تحت أنظمة وقوانين أمراء الإقطاعيات والكانتونات الكرتونية، وبحماية ودعم إثيوبي مباشر، وأمريكي عن بعد بواسطة البوارج الراسية قبالة الشواطئ الصومالية.
ويخلص الكاتب إلى أن عيون الولايات المتحدة تترقب عن كثب مجريات الأمور في الصومال، فهي تنظر للمنطقة كلها من باكستان، إلى موريتانيا بنظرة واحدة وبمنظار واحد متناسق تسوده لمساتها وترتيباتها لشرق أوسط كبير، تسيطر عليه بالترغيب والترهيب. فأفغانستان والعراق ولبنان والسودان وفلسطين والصومال وو..، كلها مواقع مرسومة على خارطة المصالح الحيوية الأمريكية، التي تريدها وقفا لها، ولمشاريعها غير الشرعية، لكن ليست كل الرياح مضمونة العواقب والاتجاه، و ستسير الرياح بما لا تشتهي السفن الأمريكية.