عن مشروع الشرق الأوسط الجديد -3-
أشد ما أفزعني هو تصريح مسؤول عربي كبير مؤخراً، يري في انسحاب قوات الاحتلال الأمريكية وتوابعها من العراق كارثة!! والمفزع أكثر أنه منذ طرح مشروع الشرق الأوسط الكبير منذ عقد ونصف، وبالرغم أنه يترجم الإستراتيجية الأمريكية الصهيونية للهيمنة على المنطقة فانه لم تجر صياغة إستراتيجية إقليمية أو عربية لمواجهته.
نحن إذاً دون إستراتيجية تشخص الواقع وتحدد خطوط سيرنا صوب المستقبل وأهدافنا التي نسعى لتحقيقها. نحن حتى دون خطة شاملة للمقاومة ولو في خطوطها العريضة.
الطبقات الكمبرادورية الغاصبة للثروة والسلطة تركت العراق ليقع فريسة للاحتلال، بل قدمت 13 حكومة عربية تسهيلات لآلة الحرب الأمريكية وقواعد عسكرية تم غرسها في الجسد العربي توجه نيرانها إلى أي دولة في المنطقة لدى أول إشارة، وتترك فلسطين تحت أكثر أشكال الاستعمار وحشية يعمل على اجتثاث الشعب الفلسطيني وإبادته وتسهم في حصاره إذعاناً للأوامر الأمريكية، وتترك سورية تحت أقسي الضغوط والتهديدات والابتزاز، مثلما تترك السودان والصومال وإيران وأفغانستان، وكأن بوسع هذه الطبقات الحاكمة أن تنقل مصالحها ومساكنها بعيداً عن الزلزال الهائل في المنطقة.
تعلن الطبقات الكمبرادورية الحاكمة في بلداننا بشكل مباشر وغير مباشر أن هذا الاندفاع الأمريكي المدمر في منطقتنا هو نتاج قوة لايمكن ردها ونرى أن هذا الاندفاع هو انعكاس لأزمة خانقة تعيشها الامبريالية الأمريكية في ذروة انحطاط الرأسمالية.
هذا الاندفاع صوب منطقتنا هو امتداد للأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة الأمريكية منذ أن بدأ المهاجرون الأوائل بعد اكتشاف أمريكا (بالأصح الغزاة الأوائل) يتجهون إليها في قسمها الشمالي، ابتكروا مبرراتهم فهذه الأرض الجديدة هي أرض كنعان التي تفيض لبنا وعسلاً. ينبغي إذن إبادة شعب كنعان واستخلاص الأرض، وهذا ماتم فعلاً، إذ حمل الغزاة البندقية في اليد اليمنى والتوراة في اليد اليسرى (التوراة تزخر بعبارتي الجوع والقتل) وصاحبت عمليات الإبادة عمليات استهلاك عارم لموارد الأرض الجديدة وعلى مدى ثلاثة قرون كانت فيها أمريكا الزراعية هي ظل أوربا ومزرعتها ومنجمها حتى قرب نهايات القرن التاسع عشر. ومنذ تحولت أمريكا إلى الصناعة نهايات القرن التاسع عشر إلى أن أصبحت أوربا هي ظلها في القرن العشرين، أصبح الاستهلاك العارم مشددا ومتصاعدا حتى أكلت أمريكا نفسها. لقد استهلكوا موارد القارة البكر والغنية، وقاربت آبار النفط على النضوب (إذ يستهلكون ربع الإنتاج العالمي في حين يشكلون 4% من سكان العالم)، ووصلت مناجم المعادن النادرة مستوى الخواء، وأصبح استخراج ما بقي باهظ التكلفة (مثلا فان 90 % من المعادن النادرة اللازمة لصناعة محرك طائرة إف 15 يتم استيراده وهي معادن لازمة لمرحلة الثورة التكنولوجية الثالثة وعلى رأسها صناعة تكنولوجيا السلاح المتقدمة وتكنولوجيا الفضاء).
- كان التوسع الأفقي هو الأساس الحاكم الثاني، تطورت الولايات المتحدة من مجرد مستعمرة صغيرة في الشرق على شاطئ الأطلسي لتضاعف مساحتها 40 مرة امتدادا تجاه الغرب ثم وسط المحيط الهادئ إلى هاواي وفي أقصي الشمال الغربي إلى ألاسكا وتم هذا التوسع بالحرب والشراء، وفي سياقه إبادة جماعية للسكان الأصليين.
ومنذ سبعينيات القرن العشرين واجهت الولايات المتحدة أزمتها المعروفة نتيجة لعدم قدرتها على التوسع الأفقي بفضل وجود الاتحاد السوفييتي، وفي الوقت ذاته أصبح السوق داخل أمريكا ذاتها غير قابل للتوسع الرأسي وأقدمت بالتالي على بديل لا فكاك منه وهو إزاحة الرأسمالية الصناعية وإلقاؤها في الخارج حيث قوة العمل الرخيصة، وبسط هيمنة الاقتصاد المالي الذي توسع أفقيا ورأسيا لدرجة أن كل دولار يوظف في الإنتاج يقابله أكثر من ستين دولارا توظف في المضاربات والأعمال المالية.
لم يستطع هذا النهج أن يساعد أمريكا على تجاوز أزمتها، بل فاقمها، وتحولت الأزمة إلى أزمة هيكلية مزمنة تشي بالمصير المحتوم للرأسمالية ذاتها. كمثال على ذلك فقدت البورصات الأمريكية في عامين تحت حكم بوش الابن 30 % على الأقل أي ما يوازى 5 تريليون دولار.
الأزمة الهيكلية المزمنة إذاً تقف وراء الاتجاه نحو التوسع الأفقي وحينما يكون الاتجاه نحو منطقتنا فان أهم أسبابه تكمن في:
أ - الموارد الهائلة من مصادر الطاقة (النفط والغاز) الذي يتجاوز في البلدان العربية نصف الاحتياطي العالمي إضافة للاحتياطي الإيراني.
ب - إن إستراتيجية الولايات المتحدة ترى الإقليم برمته (من باكستان وأفغانستان شرقا إلى الأطلسي غربا) كوحدة متكاملة ولكنها غير متجانسة، أي تراها مجموعة من الأبنية السياسية والعرقية والدينية والمذهبية الضعيفة والمتداعية والمفككة رغم أهميتها الفائقة استراتيجياً.
ج - إن الإقليم كمسرح استراتيجي تريد أمريكا أن تكون اللاعب الوحيد فيه. وتزداد أهميته الإستراتيجية لكونه يطل ويتشابك مع مسارح إستراتيجية هامة: الصين وشرق آسيا شرقاً- الهند وجنوب آسيا جنوب شرق - روسيا وجمهوريات وسط آسيا في الشمال والشرق- أوربا في الشمال والغرب - إفريقيا في الجنوب. ولا أريد التوقف لتوضيح أهميتها الحالية والمستقبلية.
د- إزاء هذا الوضع الفريد لإقليمنا فإن الهيمنة عليه تثير طموح الولايات المتحدة ليكون منطلقا لمصادرة صعود هذه القوى بل ودفعها إلى التراجع بإحكام السيطرة المطلقة على موارد الإقليم وتثبيت الوجود العسكري المباشر في خاصرة هذه المسارح الإستراتيجية التي تتخذ مواقعها على الساحة الإستراتيجية الدولية...
يتبع في العدد المقبل
■ إبراهيم البدراوي
