حراك أميركا اللاتينية.. البوليفي موراليس ثأر لـ«تشي» و«الإنكا»

ليس من قبيل المبالغة وصف الانتصار الذي حققه إيفو موراليس في انتخابات بوليفيا لعام 2005 بالحدث التاريخي. فقد جسّد ذلك الاشتراكي بملامحه السمراء تاريخاً نضالياً يمتد إلى أكثر من خمسة قرون، تعرض خلالها السكان الأصليون «الإنكا»، إلى أسوأ وأبشع ما يمكن لشعب أن يعانيه، بدءاً باضطهاد المستعمرين القدامى، من الأسبان، وصولاً إلى استغلال المستعمرين الجدد، الأميركيين «اليانكي»..

في «مذكرات الدراجة النارية»، يروي الثائر الأرجنتيني «أرنستو تشي غيفارا»، مشاهداته عن الاضطهاد الوحشي الذي تعرّض له «الإنكا» من قبل المستعمرين «ذوي البشرة الشقراء»، وذلك على امتداد المنطقة الجبلية بين تشيلي والبيرو مروراً ببوليفيا. هذه الانطباعات ترسخّت في وجدان «تشي»، فشكلت أساساً لنضاله من أجل تحرير أميركا اللاتينية.
عام 1967 استشهد غيفارا في أدغال بوليفيا بعدما تخلى عنه سكان البلاد من المزارعين وعمّال المناجم.
بعد نحو ثلاثة عقود، جاء انتصار موراليس ليشكل ثأراً لـ«تشي» وتكفيراً عن ذنب تاريخي، لم يكن سوى نتاج لثقافة الخوف التي زرعها المستعمر.
ولعل أبرز ما يميّز الحدث البوليفي، يكمن في أنّه ثورة ثلاثية الأبعاد. فهو أولاً ثورة اشتراكية جاءت لتضفي لوناً أحمراً جديداً على القارة اللاتينية، لتقترب بصبغتها هذه من نموذج هوغو تشافيز، وهو ثانياً، ثورة أوصلت للمرة الأولى منذ استعمار القارة أحد سكانها الأصليين إلى سدة الرئاسة. وهو ثالثاً ثورة ديمقراطية انطلقت من القاعدة الجماهيرية بعيداً عن أسلوب الانقلابات التي عرفت منها بوليفيا في تاريخها أكثر من 192 انقلاباً.
خلال 18 شهراً أعقبت تسلم موراليس مقاليد الحكم، عرفت بوليفيا العديد من الإنجازات والكثير من التحديات. وتحت شعار «الرأسمالية هي العدو الأسوأ للإنسانية»، قدّم «عبد الناصر البوليفي»، كما وصفه البعض، هديته الثمينة إلى العمال في عيدهم، في العام الماضي، بتأميم قطاع الغاز، في قرار تسبب بفتور في العلاقات مع البرازيل وإسبانيا، لكنّ الحليف الفنزويلي نجح حينها في احتواء الموقف.
وحفاظاً على «الشفافية في التعاملات المالية»، أمم الرئيس البوليفي مناجم أورورو التي تمتلكها شركة «غلنكور» السويسرية، موضحاً أن «الشركات التي تحترم القانون البوليفي، ولا تسلب أموال الشعب، سيتم احترامها، ولكن إذا ما خرقت هذه الشركات قوانيننا، لن يكون لدي أي خيار سوى استرجاعها»، في ما اعتبر بمثابة خطوة أولى على طريق إصلاح قطاع المناجم.
وانطلاقاً من مبدأ «الصراع من أجل السلطة والأرض للسكان الأصليين»، أعلن موراليس عن خطة جديدة للإصلاح الزراعي، تقوم على مصادرة أراض غير منتجة (77 ألف ميل مربع) وتوزيعها على الفلاحين الفقراء. وفيما اتخذ عدد من أعضاء مجلس الشيوخ موقفاً متحفظاً على الخطة، سار آلاف المزارعين إلى العاصمة لاباز في تشرين الثاني الماضي للدفع باتجاه الموافقة على الخطة، ما دفع بثلاثة شيوخ معارضين إلى تغيير موقفهم والموافقة على القانون الذي أبصر النور مع تصديق 15 من أصل 27 عضواً في الكونغرس عليه.
على مستوى الإصلاحات السياسية والاجتماعية، دعا موراليس إلى انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد يعيد إلى السكان الأصليين الحقوق التي سلبها منهم المستعمر، فيما جاءت سياسة الإصلاح التربوي لتعيد الاعتبار للغات الأصلية، التي يتحدث بها 37% من سكان البلاد، والتي شهدت تراجعاً ملحوظاً لصالح اللغة الإسبانية. هذه السياسة وضعت الرئيس المنتخب في مواجهة مباشرة مع ذوي النفوذ في البلاد، وتحديداً الكنيسة الكاثوليكية وحكام المقاطعات.
وفي بلد يبلغ عدد المؤمنين الكاثوليك فيه 70% من عدد سكانه، شكلت العلاقة بين موراليس والكنيسة تحدياً جديداً للرئيس الاشتراكي، بعدما أفقدت خطة الإصلاح الزراعي الوقف الكنسي جزءاً كبيراً من أراضيه «غير المنتجة». وسرعان ما تحولت تحذيرات الكنيسة من النزعة العلمانية للعهد الجديد، إلى صراع مفتوح مع الحكومة، تفجّر مع إعلان وزير التربية والثقافة فيليكس باتزي «علمنة التعليم».
وفيما دعا أساقفة بوليفيا الشعب إلى «الدفاع عن معتقداتهم» مطالبين موراليس بـ«التمييز بين دولة علمانية ودولة تعادي الأديان»، اتهم المطران تيتو سولاري، ذو النفوذ الواسع في الأوساط الكنسية، موراليس بالعمل من خلال «نموذج شيوعي»، ما دفع بباتزي إلى اتهام الأساقفة بأنهم «يكذبون على الشعب»، معتبراً أنّ «الكنيسة كشفت عن وجهها الحقيقي، فهي اليوم إلى جانب الأوليغارشية، لأنها على مدى 514 عاماً كانت في خدمة هذه الأوليغارشية».
إلى جانب الصراع مع المؤسسة الكنسية، جاءت الاشتباكات بين مزارعي الكوكا المؤيدين لموراليس، وأنصار الحاكم المحلي في كوباهابانا مانفرد ربيس في كانون الثاني الماضي لتضيء على مشكلة جديدة بين السلطة المركزية والمقاطعات.
وتأتي هذه الاشتباكات على خلفية الدستور الجديد الذي تعهد به موراليس في حملته الانتخابية، والذي شرعت جمعية تأسيسية بكتابته في 6 آب الماضي. وفيما يعيد الدستور الجديد السلطة للسكان الأصليين، يبدي العديد من حكام المقاطعات التسعة، خصوصاً تلك الغنية بالنفط والمواد الخام، معارضتهم لهذا التوجه، حيث تطالب ست مقاطعات بمزيد من الاستقلالية عن السلطة والمزيد من المشاركة في الموارد العامة، مع الإشارة إلى أنّ هذه المطالبة تأتي من قبل المقاطعات الأكثر ثروة (لاباز، سانتا كروز، كوتشاهامبا، باندو، بيني وتاريخا)، وقد لوحت بعضها بالانفصال في حال استمرار موراليس في سياسته الإصلاحية.
أمام هذه الضغوطات اتخذ موراليس سلسلة من القرارات لامتصاص الصدمة، كان أبرزها إقالة عدد من وزرائه في مقدمتهم باتزي ووزيرة الداخلية اليسيا مونوز، في وقت يطرح العديد من المراقبين اللاتينيين جدياً سيناريو وقوع انقلاب أوليغارشي يطيح بالرئيس اليساري، وهذا ما دفع بحليفه تشافيز مؤخراً إلى التصريح بأنه لن يسمح بأي زعزعة للاستقرار في لاباز، مؤكداً أنّ أي انقلاب على موراليس لن يدوم أكثر من انقلاب بيدرو كارمونا، المدعوم أميركيا، في إشارة إلى الانقلاب الفاشل الذي شهدته كاراكاس عام 2002 والذي استمر يومين فقط.