قراءات أولية حول تخلي واشنطن عن الرئيس الباكستاني: مشرّف بين ضغوط اللحظة ورهانات المستقبل
الاحتجاجات التي اندلعت في باكستان مؤخراً، والتي قام بها محامون، وصحافيون، ونشطاء معارضون في لاهور في الشرق، وكراتشي في الجنوب، وكويتا في الجنوب الغربي، والعاصمة إسلام أباد.. تشير كلها إلى التحدي المتعاظم لحكم الجنرال برويز مشرّف، رئيس الجمهورية وقائد الجيش.
ما هي درجة جسامة الخطر الذي يتعرض له الجنرال؟ مشرف يحكم باكستان منذ 1999 عندما قام في ذلك العام بانقلاب عسكري، وأعلن حالة الطوارئ وحل البرلمان. وفي إبريل من عام 2002 هيأ الجنرال مشرف الظروف التي جعلته يُنتخب من خلال استفتاء لقي اعتراضات، وأُجري في إطار انتخابات وطنية قيل إن القصور شابها بوضوح، وأنتجت برلمانا عمل على تثبيت الجنرال كرئيس للدولة، وسمح له في الوقت ذاته بأن يحتفظ بقيادة الجيش، وهو دور مزدوج ممنوع دستورياً.
وما لم يحدث انقلاب كبير في الأوضاع كحدوث انتفاضة شعبية، أو تدخل من الجيش ضده، فإن الحالة القائمة حالياً، ستستمر حتى شهر أكتوبر المقبل عندما تنتهي دورة انعقاد البرلمان الحالي، وتنتهي الولاية الرئاسية الحالية للرئيس مشرف التي استمرت خمس سنوات. ولكن ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ إن مستقبل باكستان سيعتمد على ما إذا كان مشرف سيقرر التمسك بالسلطة، ويعلن حالة الطوارئ، ويسحق المعارضة، أم سيختار بدلاً من ذلك العودة للديمقراطية، وهو ما سيعني في مثل هذه الحالة إجراء انتخابات حُرة وعادلة، والسماح للزعماء المنفيين مثل رئيسي الوزارة السابقين بنازير بوتو، ونواز شريف، بالعودة إلى الوطن.
قليلون هم المراقبون الذين يوجد لديهم أي اقتناع حقيقي بأن مشرف سيتبع الطريق الثاني. فعلى رغم أنه معروف باعتباره قائداً جسوراً وعقلانياً وبراغماتياً، إلا أن بعض معارضيه يقولون إنه يعتقد في قرارة نفسه أنه لا غنى عنه، وهذا وهْمٌ خطر ينتاب كثيراً من الساسة.
والرأي المُجمع عليه، هو أن مشرف يريد انتخاب برلمان مُدَجَّن في الخريف القادم، بحيث يضمن أن يعيد ذلك البرلمان انتخابه كرئيس، ويسمح له في الوقت ذاته بالاحتفاظ بمنصبه كقائد للجيش. فهذا الوضع يمنحه سلطة حل البرلمان إذا ما رفض إطاعته، كما يمنحه سلطة السيطرة على كافة الجوانب الأمنية بما في ذلك ترسانة باكستان النووية.
وهذه في الحقيقة أجندة طموحة بالنسبة لرجل تَلقى سياسته الموالية لأميركا معارضة شعبية كبيرة، ويواجه هو نفسه معارضة من جانب الليبراليين والإسلاميين على حد سواء، علاوة على أن شعبيته قد تعرضت، إذا ما كان يمكن الوثوق باستطلاعات الرأي، إلى تراجع كبير في الشهور الأخيرة. وفوق ذلك كله أن باكستان تشهد عنفاً متزايداً في الشارع، واغتيالات سياسية متفرقة، وانهياراً للنظام والقانون.
والسؤال الذي تتردد أصداؤه حالياً في كل من واشنطن، ولندن، ودلهي، وكابول، وغيرها من العواصم هو: هل يستطيع مشرف أن ينجح في إنجاز ذلك؟.. هل يستطيع أن يروض المعارضة وينجو من الأزمة الحالية ويبقى بعدها؟ أم أنه سيجد نفسه في النهاية مضطراً للتراجع والانسحاب من المشهد.. هل يخاطر بالبقاء ومن ثم التعرض لاحتمال الانسحاب عنوة قبل نهاية العام؟
الإجابة على تلك الأسئلة ستحمل في طياتها تداعيات يمتد تأثيرها إلى ما وراء باكستان بكثير. ستكون لها مثلاً تداعيات على الوضع في أفغانستان، لأن ضعف الحكومة المركزية هناك، واندلاع الفوضى في إسلام أباد، سيمنح زخماً أكبر لـ«الجهاديين» في المنطقة الشمالية الغربية من باكستان، ويوفر لهم حافزاً قوياً للانضمام إلى الحرب ضد الأمريكيين عبر الحدود. وستكون لذلك أيضاً تداعيات على الوضع في كشمير خصوصاً إذا ما عرفنا أن مشرف -وهذا مما يحسب له إلى حد كبير في الحقيقة- قد حاول مراراً وتكراراً إيجاد حل للصراع في هذا الإقليم من خلال الحوار مع رئيس الوزراء الهندي «مان موهن سينغ».
وفوق ذلك ستكون لذلك الأمر تداعيات أيضاً على العلاقات مع الولايات المتحدة، التي تمنح باكستان مساعدات تبلغ قيمتها 850 مليون دولار سنوياً، من أجل إبقاء المنطقة الشمالية الغربية ومكوناتها القبَلية في حالة من الهدوء.
والاضطرابات الحالية بدأت في الثامن من آذار الماضي عندما أقدم مشرف على فصل كبير قضاة المحكمة العليا افتخار شودري وهو رجل كان مشرف قد عيّنه خصيصاً في تلك المحكمة كي يعاونه، ولكنه بدأ يتخذ مواقف مستقلة بعد ذلك، منها على سبيل المثال ضغطه من أجل إجراء تحقيق حول اختفاء 400 شخص من مواطني منطقة بلوشستان -التي ينتمي إليها هو نفسه- الذين يزعم أنهم قد أُسِروا أو قتلوا على أيدي أجهزة الاستخبارات الباكستانية القوية.
وقد أدت إقالة شودري إلى اندلاع عنف في كراتشي في الثاني عشر من أيار الماضي بين أنصار مشرف ومعارضيه وبين المجموعات القبلية مما أسفر عن مصرع 48 شخصاً.
وفي الوقت نفسه يخوض مشرف مواجهة مع التيارات الإسلامية الراديكالية وخصوصاً مع المتشددين في تلك التيارات وبشكل أكثر تحديداً مع طلاب المدارس الدينية الذين يبلغ عددهم 3000 طالب يدرسون في معهد «لال مسجد» (المسجد الأحمر) في إسلام أباد، والذين كانوا قد هددوا باللجوء إلى أسلوب الهجمات الانتحارية إذا لم تقدم السلطات على تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد.
وهناك شائعات متواترة عن أن مشرف قد يسعى إلى إبرام صفقة مع رئيسة الوزراء السابقة بنازير بوتو، المقيمة في الخارج، والتي يقال إن حزبها «حزب الشعب الباكستاني» قد بدأ يستعيد قوته. ويمكن لمثل لتلك الصفقة لو تمت أن توفر مخرجاً لمشرف من هذه الأزمة.
والسؤال الآن: ماذا ستفعل واشنطن؟ يجب على واشنطن أن تحث مشرف على السماح بعودة الديمقراطية للبلاد، حتى لو كانت محصلة ذلك غير قابلة للتنبؤ. أما إذا ما قامت، على العكس ذلك، بدعم استمرار حكم يصفه منتقدوه بأنه «غير ديمقراطي» لخمس سنوات أخرى، فإن ذلك يمكن أن يؤجج غضب الشارع الباكستاني، ويؤدي إلى اندلاع العنف، ويوفر الدافع للمزيد من الراديكالية الإسلامية، وإلى سيادة الإحباط بين القوى المناصرة للديمقراطية، وتوليد المزيد من المشاعر المناوئة لأميركا. ومفهوم، بطبيعة الحال، أن ذلك لن يكون خياراً سهلاً لإدارة بوش الغارقة في المستنقع سواء في العراق أو في أفغانستان.
■ باتريك سيل