الحوار... الذي فشل قبل أن يبدأ!

قبل عدة أيام من إعلان القاهرة تأجيل جلسات الحوار العتيد، كانت المعلومات التي رشحت عن اجتماعات قيادات القوى والفصائل الفلسطينية الموجودة في العاصمة السورية، تشير إلى احتمالات التأجيل- حتى لانقول الإلغاء- استناداً إلى العديد من الملاحظات التي تداولتها حوارات مطولة داخل كل تنظيم، وعلى مستوى المداولات التي جمعت عدة فصائل. 

لكن اللافت لنظر المراقبين، كانت البنود التي أعلنتها القوى الراغبة بـ«التريث وعدم الذهاب للاجتماعات بدون توفر الظروف المناسبة لها» على حد قول أكثر من مصدر مسؤول. هذه الأسباب التي لم تكن، كما توقع البعض، سوى بوابات للهروب الشكلي من تقديم المبررات الأساسية، التي حملتها أوراق الملاحظات التي بعثت بها هذه القوى للحكومة المصرية، باستثناء البند الأهم في رأينا، وهو إطلاق سراح المعتقلين السياسيين المحتجزين في سجون السلطة. هذا الإعتقال، المرفوض وطنياً، لأن مطاردة واعتقال المناضل الفلسطيني بسبب أفكاره، ومعتقداته السياسية، وانتماءاته التنظيمية الوطنية- مع التشديد على الوطنية- تعتبر جريمة متكاملة بحق الشعب والقضية.

إن فقدان الورقة المصرية- كما أشرت في مقال سابق- لتشخيص أسباب الأزمة الراهنة، (الممتدة منذ إعلان اتفاق المبادىء في أوسلو وللآن)، والهروب من وضع القضايا الأساسية التي حكمت الخلافات الداخلية على مشرحة النقد، (من أجل التوصل لصياغة برنامج عمل وطني/كفاحي، يعيد وضع النضال الوطني، بكافة مجالاته وأشكاله، على طريق المقاومة، مما يعني الإتفاق على آلية عمل جماعية، تعمل على إعادة «تظهير» الموقف الوطني، وتمتين وحدة النسيج المجتمعي والجغرافي الفلسطيني)، لا يصنعان أفقاً للحل، مثلما لا ينبئ صدق المشاعر والأمنيات بتحقيق المصالحة المأمولة، لأن البرنامج الوطني، وآلية تنفيذه، هي الأسس التي يجب أن ينطلق منها أي حوار جدي، يضم إلى جانب مندوبي القوى والفصائل، الكفاءات الوطنية، واللجان الأهلية الناشطة في الساحة السياسية. وإذا كان قرار التأجيل قد صدم العديدين من المراهنين على نجاح الحوار المرتكز على الورقة المصرية المنقوصة، فإن أعداداً أخرى من المهتمين والمنخرطين بالشأن العام، وجدوا في تأجيل اللقاءات، فرصة لإعادة النقاش والحوار الحقيقي للقضايا الأساسية، بهدف الوصول لطاولة حوار، يجلس المجتمعون حولها، بشفافية ومصداقية عالية، لمناقشة أهم القضايا الخلافية، بهدف الوصول للقواسم المشتركة، التي تجعل الاتفاق على «وحدة الهدف» القضية الأهم، والتي تأتي على أساسها لاحقاً «وحدة الصف». فمحاولة فهم واستيعاب مبررات التأجيل، ستكون أقل تأثيراًً على عقلية ومشاعر الجماهير، من الوصول للقطيعة التامة بين الطرفين المتخاصمين، الذين يتحصنون ويتمترسون داخل خنادق المواجهة، ويتراشقون تارة بالنيران، وغالباً بالقصف الإعلامي الصاروخي! إن المطلوب وطنياً وقومياً، العمل السريع على سحب صاعق التفجير، الجاهز للتدمير في أية لحظة، تحت ضغط القوى الخارجية المعادية، أو بفعل الممارسات الخاطئة، المحكومة بضيق الأفق، وبثقافة «إلغاء الآخر».

وعلى الرغم من أن مشهد ساحة الحوار كان يغص بالسجالات المتبادلة، فإن الطرف الآخر من حلبة الصراع، العدو الصهيوني، أقدم على حوار آخر- إذا صح التعبير- بالرصاص والدماء. فقد تحركت الدبابات والطائرات وعساكر الاحتلال، لتمارس عدوانها الوحشي الجديد، تحت دعاوى شكلية، ونمطية، لم تتوقف آلة التبرير الإعلامي الصهيونية عن تكرارها السمج منذ سنوات. إذ جاء العدوان المحدود بمساحته الجغرافية، ليكشف عبر كثافة نيرانه، عن المأزق الداخلي للساحة السياسية داخل كيان العدو، من خلال تصدير الإخفاقات السياسية لوزير الحرب وحزبه، إلى خارج دائرة الحراك المحلية، على أمل جلب المزيد من أصوات الناخبين في فبراير القادم. لقد أراد جنرالات الموت أن ينجزوا على الأرض عملية «استطلاع بالنيران» لقدرات المقاومة، وجس نبضها المباشر/الميداني لقدراتها، التي خضعت منذ خمسة أشهر تقريباً لبنود «التهدئة» الناقصة والمليئة بالثقوب. جاء الرد عنيفاً ضد مستعمرات «غلاف غزة»، وعسقلان، إذ أطلقت الفصائل المقاتلة عشرات الصواريخ وقذائف الهاون نحو بلدات العدو وتجمعاته العسكرية، في رسالة جوابية حملت العديد من المعاني لمن يهمهم الأمر. وبالتوازي مع الهجمة العدوانية الجديدة، التي جاء توقيتها المقصود، مع صخب وهيجان الإعلام المعولم، المتلقي لما تقوله «الميديا الأمريكية الموجهة» عن «استثنائية وتاريخية الانتخابات» التي أوصلت للبيت الأبيض «الساحر الأسود»(!) الذي يتوهم البعض من الحالمين، أنه سيعيد للبشرية سعادتها المصادرة، بيد الرأسمالية المتوحشة، التي يشكل «الحزب الديمقراطي» واحدة من أهم ركائزها. كما أنه سيعمل على فرض السلام في فلسطين وعموم المنطقة، هذا «السلام» الذي سيمر عبر بوابة كبير موظفي الإدارة الجديدة «رام عمانويل» اليهودي الصهيوني، المتطوع السابق- وربما المستقبلي- في جيش الحرب الصهيوني.

إن المرحلة القادمة الملبدة بالغيوم السوداء، تتطلب من الجميع، القابضين على جمر القضية الوطنية، الإسراع لتوحيد قواهم ومجتمعهم على أساس برنامج المواجهة، بعيداً عن تضخيم الذات، التي تقود للهيمنة. فالمعركة الوطنية مع العدو تتطلب حشد كل القوى السياسية، والمجتمعية الأهلية في المعركة الدائرة .إذ أن كل الرهانات على الحل القادم من «الخارج»، لاتعدو كونها سراباً.