يبيعوننا الوهم ليثبتوا حقائق هيمنتهم!
وسط التهويل الإعلامي بخصوص «أهمية» التصريحات و«الانقلابات» في الداخل الأمريكي بما فيه في صفوف الحزب الجمهوري على سياسات الرئيس جورج بوش، الخاصة بالعراق، تبرز أصوات أخرى من ذلك «الداخل» ذاته، تضغط باتجاه الإبقاء على احتلال العراق، علماً بأن حتى تلك الأصوات المطالبة بالانسحاب التدريجي لقوات الاحتلال من العراق تضع سقفاً زمنياً أولياً لذلك يمتد حتى عام 2012 ، أي أنه تاريخ قابل للتمديد في حال تم ترك قوات الاحتلال تسرح وتمرح في العراق، دون بروز عوامل ضغط حقيقية واسعة من الداخل العراقي تلزمها على المغادرة قبل ذلك التاريخ. ولعل الأهم في هذا السجال هو التذكير بأن قيادات الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي، بما فيها الرؤساء المتناوبون على سدة الحكم في البيت الأبيض، هم مجرد واجهات قابلة لللتبديل والتغيير بالنسبة للطغم الاحتكارية وجماعات الضغط الحاكمة والمتنفذة عملياً في واشنطن، بغض النظر عن مضامين أي شكلانية للممارسات الديمقراطية والحقوق التي يجري رميها في سلة المهملات إذا كا كانت تهدد استمرار تلك الهيمنة. ولأن الحال كذلك فإن حتى الفضائح التي يفترض بها أن تطيح بأصحابها كلياً من الساحة السياسية أو العامة، تراها يجري احتواؤها واسترضاء أصحابها المخزيين بوضعهم في مناصب ومواقع أخرى.
ماكس بوت، وهو كاتب ومحلل سياسي أمريكي، نشر مادة على موقع إيكاوس، نسوقها مثالاً عن العقلية السائدة لدى النخب الإعلامية والسياسية الأمريكية، والمنطق الذي يقومون من خلاله بمحاكمة الأشياء والسعي لبسط الهيمنة الأمريكية على منطقتنا، ولو تضمن ذلك تهكماً متبادلاً فيما بينهم على خلفية التنافس الحزبي، ولكن دائماً، كما بات دارجاً، انطلاقاً من ذهنية مالك الحق في بسط تلك الهيمنة تحت شعارات «الالتزام الأدبي والأخلاقي» و«الخدمة» في العراق مثلاً، أي أنهم همشوا العرب، الذين قبلوا تهميش أنفسهم، ليختلفوا هم فيما بينهم، جمهوريين أو ديمقراطيين، حول طريقة إدارتهم لنا، بعد مسح أدمغتنا بجملة من المصطلحات المضللة والتهويل من «خطر الانسحاب الآن».. وفيما يلي نص تلك المادة نعرضها دون تعليق إضافي:
جاءت تعليقات السيناتور ريتشارد لوجار حول العراق، وهي التعليقات التي طالما جرى تداولها على نطاق واسع في الصحافة مؤخراً، كما هدير الرعد في عز صيف واشنطن الحارق. ومما قاله هذا القائد «الجمهوري» البارز في لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ إنه لم يعد يؤمن بجدوى إستراتيجية زيادة عدد القوات هناك، وعليه فهو يدعو إلى البدء بخفض الدور العسكري الأميركي الذي نؤديه حالياً في العراق.
وإلى جانب لوجار، عبر قادة جمهوريون عن مشاعر إحباط مماثلة، وهددوا بالشروع في معارضة السياسات التي يتبناها حزبهم بخصوص العراق، ما لم تبد في الأفق، مؤشرات واضحة على إحراز تقدم ملموس بحلول شهر سبتمبر المقبل، وهو أبعد ما يكون عن الحدوث. وإنه ليسهل على المرء أن يرى مشاعر القلق هذه الطاغية على الكثيرين في صفوف الحزب «الجمهوري». ومصدر الخوف أنه وفي حال عدم إحراز أي تقدم يذكر في الجهود المبذولة في العراق بحلول العام المقبل، فإن الأرجح أن يمنى الحزب بخسائر فادحة في الانتخابات الرئاسية الحاسمة التي سوف يشهدها العام المقبل. وكما جرى التعبير عن ذلك صراحة على لسان ديك موريس، فإن العراق ولا شيء غيره، هو الذي يدمر صورة الرئيس بوش في نظر الناخبين، وهو الذي تتآكل فرص نجاح حزبه في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
لذلك وفي حال بدئه الانسحاب العسكري منه، فإن ذلك سيساعد على تحسن شعبيته في استطلاعات الرأي العام، فضلاً عن تحسين فرص حزبه الجمهوري. والمنطق الذي يقوم عليه هذا الحديث– الذي يوجهه القلق السياسي على نتائج الانتخابات، أكثر منه التزامنا الأخلاقي السياسي إزاء العراق- هو أن القائد العسكري الجديد، الجنرال ديفيد بيتراوس وحلفاءه العراقيين، لا يحققون نتائج مثمرة واضحة بالسرعة المطلوبة منهم، وهو ما يجعل من الانسحاب الفوري من هناك، أمراً محتوماً إثر فوز الديمقراطيين بالانتخابات الرئاسية المرتقبة في العام المقبل. وبما أن ذلك هو واقع الحال، فإن من الأفضل البدء بخفض عدد الجنود المقاتلين من هناك، بدلاً من انتظار ما هو أسوأ لاحقاً.
وتطوع مركز الأمن الأميركي الجديد، وهو مؤسسة «ديمقراطية» للأبحاث في واشنطن، بتوفير خطة مبدئية لهذه الإستراتيجية، دعت إلى الوقف الفوري لزيادة عدد القوات، إلى جانب البدء بخفض القوة البالغ قوامها حالياً 160 ألف جندي، إلى 60 ألف جندي فحسب، بحلول العام المقبل 2008.
ودعت الخطة كذلك إلى أن خفض عدد القوات المقاتلة، ستصحبه زيادة مؤقتة في عدد المستشارين العسكريين الملحقين بالقوات. والهدف النهائي للخطة هو الانسحاب الكامل من العراق –وليس من منطقة الشرق الأوسط- بحلول عام 2012، مع ملاحظة أن هذا التاريخ هو موعد نهاية الولاية الأولى للرئيس الأميركي المقبل.
وربما تبدو هذه الخطة مغرية للجمهوريين الذين يزداد قلقهم على مصير حزبهم الانتخابي، لكونها تدرأ عنهم شبح الكارثة السياسية التي يهددهم بها العراق، في ذات الوقت الذي يشعرون فيه بأن المصالح القومية الحيوية ليست مهددة في شيء. غير أن السؤال الواجب إثارته هو: هل يعقل أن نسحب ما يزيد على 50 في المئة من حجم قواتنا الحالية، وأن ننجح في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي غزونا من أجلها العراق؟!
وإذا كان قد سبق لنا أن حققنا نتائج مذهلة نتيجة لتعاون قواتنا في القتال المشترك جنباً إلى جنب المقاتلين العراقيين، على نحو ما حدث في محافظة الأنبار العام الماضي، فما الذي يمنع الاستمرار في هذا التعاون، وتطبيق التجربة نفسها في مواقع أخرى من العراق، بما فيها العاصمة بغداد؟ وإذا كانت القبائل العربية (السنية) قد تعاونت مع مقاتلينا في تلك الجهود التي استهدفت تنظيم القاعدة في الأساس، فإنه ليس مرجحاً أن تصمد هذه القبائل لوحدها في مواجهة ذلك التنظيم الشرس، في ظل غياب المقاتلين الأميركيين والحماية الأميركية. والأرجح أن يسعى أصدقاؤنا العراقيون إلى المصالحة مع أولئك الإرهابيين.
والشاهد أن زيادة عدد القوات قد قدمت من المؤشرات ما يدل على إحراز بعض التقدم النسبي في جهودنا الحالية. والدليل أن عدد القتلة الطائفيين قد انخفض بنسبة 50 في المئة منذ شهر يناير من العام الحالي. ولذلك فإن الالتزام بدعم خطة زيادة عدد القوات، وإنجاح الإستراتيجية الأمنية الجديدة، هما الحل الوحيد الذي يجب التمسك به. فلا شيء ينقذ المصير السياسي للجمهوريين سوى إحراز تقدم ملموس على الأرض العراقية(!!).