موت الإمبراطورية الأمريكية.. الولايات المتحدة تدمّر نفسها.. وتدفع العالم إلى الهلاك!
«أعتقد أنّ المؤسسات المصرفية أكثر خطورةً على حرياتنا من الجيوش» (توماس جيفرسون، رئيس أمريكي، 1743 - 1826)..
الولايات المتحدة تموت. إنها تدمر نفسها وتجرّ معها بقية العالم.
كثيراً ما يقال إنّ الأمر يتعلق بانهيار القروض العقارية ذات المخاطر، ما يخفي السبب الحقيقي للأزمة. وإذا جمعناها مع أزمة الرهون الفاسدة وغير الضرورية والملموسة، نستطيع على الأقل أن نلوم على المجزرة شيئاً «حقيقياً». إنها أسطورة، وهنا تكمن المشكلة. يعود مدى هذا الانهيار المالي إلى أنّ كل شيء تأسس على الفراغ.
أعادت الصناعة المالية تسمية القروض المضمونة لتصبح «قروضاً تبادلية على العجز»، كما أعادت تسمية المراهنات ذات المخاطرة لتصبح «منتجات مشتقة». كان المديرون الماليون وكوادر الوسط المصرفي يبيعون أقصى خديعةٍ في العالم كله على شاكلة المشعوذين الذين كانوا يبيعون أدويتهم في القرن الثامن عشر، لكن هذه المرة ببذَّاتٍ وربطات عنق. في تشرين الأول 2008، بلغت هذه الصناعة، التي يتوصل عددٌ قليلٌ من الناس إلى فهمها، ألف مليار دولار.
الآن، تتهاوى الولايات المتحدة، التي تدعمها الآمال الكاذبة، مثلما يتهاوى قصرٌ من ورق اللعب.
صيرورة الوهم
... بعد حرب فيتنام، شهدت الولايات المتحدة انحساراً اقتصادياً، لكنّ الناس رفضوا التخلي عن مستوى حياتهم المرتفع على الرغم من خسارة الوظائف، وأصبح الإنتاج يتم أكثر فأكثر في الخارج. ساد شعورٌ وهمي بوجود حقٍ مكتسب أبقى الأمريكيين على بساط الاستهلاك المتحرك.
في التسعينات، زاد المعلنون نشاطاتهم وروجوا لأسلوبٍ حياةٍ أكثر بذخاً، يمكن الوصول إليه بفضل القروض السهلة وقليلة الكلفة. أصبحت الرهون الثانية عملةً رائجة واستخدمت قروض الحصول على الملكية لتسديد حسابات بطاقات الاعتماد. كلما كان الأمريكيون يشترون، كانوا يستدينون. لكن طالما أنهم كانوا يمتلكون منزلاً، كان شعورهم الزائف بالأمان يدوم: كان المنزل رأس مالهم الخاص، وقيمته تزداد باستمرار، وبوسعهم إعادة رهنه بنسبٍ أدنى عند الضرورة. كما كانت الصناعة المالية تعتقد أيضاً أنّ أسعار العقارات سترتفع باستمرار، وأنها في حال انخفضت، فسيخفض المصرف المركزي أسعار الفائدة لإعادة رفع الأسعار. اعتقد الجميع أنّ الأمر يتعلق بوضعٍ رابحٍ على الدوام.
سمح أكثر أسعار الفائدة انخفاضاً في عهد رئيس الاحتياطي الفدرالي آلان غرينسبان للجميع بامتلاك منزل. كان بوسع العمال العاملين بالحد الأدنى للأجور الطامحين لشراء منزلٍ تبلغ قيمته نصف مليون دولار أن يضمنوا قروضاً تبلغ قيمتها 100 % كما كان المقرضون واعين تماماً بأنّ العمال لن يتمكنوا من الاستمرار في التسديد.
حصل أناسٌ عديدون على قروضٍ ذات مخاطر وجدت فيها شركات توظيف الأموال والمقرضون حيلةً جديدة: تجميع هذه القروض العقارية عديمة القيمة افتراضياً وإعادة بيعها على شكل استثماراتٍ لبلدانٍ غير مدركة لن ترى الفارق. لم يتأثر أسلوب الحياة المفرط لدى الأمريكيين ونزعتهم الاستهلاكية أبداً، وكانت أممٌ أجنبية ليست أكثر مهارةً هي التي تموّل كل شيء.
أقرضت المصارف على الدوام كمياتٍ من الأموال أكثر مما تملك، لأنّها تستقي دخلها من دفع الفوائد. كلما زاد مصرفٌ الأموال التي يقرضها، تلقى فوائد، حتى دون أن يكون هنالك مالٌ في خزائنه الحديدية. إنها صناعةٌ مربحة أن تعطي المال الذي لا تملكه بدايةً. بل إنّ مصارف الإقراض العقاري وشركات توظيف الأموال اقترضت المال من الأسواق النقدية العالمية لتمويل هذه القروض العقارية بمجازفةٍ تبلغ 100% وأكثر، وبدأت تقرض أكثر من عشرة أضعاف أصولها الكامنة.
المنعطف الأخطر
بعد الحادي عشر من أيلول، طلب جورج بوش من الأمة أن تستهلك في خضمّ الحرب، وهذا ما فعلته الأمة. لقد اقترضت بمستوياتٍ غير مسبوقة، لا لتدفع ثمن (حربها على الإرهاب في الشرق الأوسط) فحسب (تقدّر التكاليف بأربعة تريليون دولار)، بل كذلك لتدفع خفض ضرائبها في الوقت ذاته الذي كان يتوجب فيه زيادة هذه الضرائب. أنقص بوش الاحتياطيات الإلزامية في فاني ماي وفريدي ماك من 10 % إلى 2.5 %. سرعان ما أقرضت المصارف مبالغ تقدّر بثلاثين ضعف قيمة أصولها. وصف أحد الباحثين الاقتصاديين هذا الوضع بأنه «تهتّكٌ في الإفراط».
كان ذلك إفراطاً في النفقات في زمن الحرب. لم يشهد التاريخ بلداً تورط في نزاعٍ دون تضحية، دون تخفيض الميزانية، دون زيادة الضرائب ودون سياسةٍ اقتصاديةٍ محافظة.
وكما حدث في العام 1929، كانت فرص أن يسارع جميع المستثمرين للمطالبة بأموالهم في الوقت نفسه تزداد.
إذاً، لضمان هذه الرهون عالية المجازفة، ابتكرت شركات الاستثمار التي كانت تبيعها بوليصات تأمين على الاستثمارات في هذا النمط من الإقراض، تباع باسم «مقايضة العجز». غير أنّه توجّب على الحكومة تنظيم هذه البوليصات قانونياً، وبقيت غير منظمة قانونياً. «غطت» المؤسسات المالية «مضارباتها»، وباعت أقساطاً تأمينية لحماية أصولها المضاربية. بعباراتٍ أخرى، أصبح ممكناً لأصلٍ ينبغي أن تزداد قيمته أن يكون له رهانٌ خاص، في حال انخفض. في تشرين الأول 2008، بلغت صفقات بوليصات مقايضة العجز 62 مليار دولار، وهو مبلغٌ أعلى من كل بورصات العالم مجتمعةً.
لم تكن لهذه المضاربات أية قيمة إطلاقاً، ولم تكن استثمارات.. لم تكن سوى أدواتٍ مالية دعيت باسم المشتقات ـ مضاربات عالية المجازفة، وبلغت قيمة صفقات المشتقات أكثر من مليار مليار دولار، أي أكثر من اقتصاد العالم أجمع. (في أيلول 2008، بلغ الناتج الإجمالي المحلي العالمي 60 تريليون دولار.)
بعد أن أدينت ممارسة المشتقات بوصفها غير شرعية في العام 1990، شرعنها آلان غرينسبان. سرعان ما أصبحت صناديق التحوط صناعةً بحد ذاتها، تضارب في المشتقات في السوق وتراهن بقدر الرغبة. كان ذلك سهلاً، إذ تعلّق الأمر بأموالٍ لم تكن لديها في البداية. كان للصناعة شكل مصرفٍ بالكامل، لكنّ صناديق التحوط، صناديق الأسهم ووسطاء المشتقات، لم يكن لديها منفذ للقروض الحكومية في حال الإفلاس. لدى عدم تسديد الملاكين لالتزامهم، لم يكن لدى صناديق التحوط مال للدفع. لم يكن بوسع أولئك الذين غطوا أصلاً تزداد قيمته أو ترتفع الاستفادة من الأرباح أو الخسائر.
أصبحت هذه السوق أكبر صناعة في العالم، وجمع كل العمالقة الماليين الأرباح: بير شتيرنز وليمان براذرز وسيتي غروب وAIG. لكنّ مالكي البيوت، الذين بلغوا قبل وقتٍ طويل حدود الإقراض، بدؤوا يعجزون عن تسديد أقساطهم. كانوا يدفعون المال ليس لتسديد قرض بيتهم فحسب، بل كذلك كل الديون المتجمعة على مدى الزمن للحصول على سيارة وبطاقة ائتمان وقرض طلابي ونفقاتٍ طبية وقروض نفاذ إلى الملكية.. اقترضوا لدفع ثمن البقالة وأقساط التأمين الصحي التي ارتفعت كالسهم قبل الاحتفاظ ببيوتهم الأكبر وسياراتهم الأكبر. أعادوا تمويل ديونهم ذات أسعار الفائدة الأدنى، التي ارتفعت بسرعة. كان ربع دخل المواطن الأمريكي المتوسط السنوي يستخدم لتسديد ديون بطاقة الائتمان وحدها.
وقوع الكارثة
في العام 2008، بدأت أسعار البيوت تهبط فجأةً والرهونات تخسر قيمتها. انخفضت الطلبيات الصناعية بنسبة 4.5% قبل أيلول، بدأت الموجودات تتكدس، ارتفع معدل البطالة بشدة، وازدادت الحجوزات بنسبة 121%، وفي كاليفورنيا بنسبة 200%.
توجب على عمالقة المال التوقف عن التعامل بهذه السندات التي جرى إسنادها إلى أقساطٍ رهنية، إذ أصبح يتوجب تبرير خسائرهم. بدأ المستثمرون يسحبون أموالهم. كانت بير شترنز، المتخصصة في محافظ سندات الرهن، أول الراحلين في آذار.
ومثلما فعلت في القرن العشرين، أتت شركة جي بي مورغن لتلتهم بير شترنز مقابل حفنةٍ من المال. قبل عامٍ واحد، كان سعر سهم بير شتيرنز 159 دولاراً، لكن جي بي مورغن تمكنت من الشراء بدولارين للسهم. في أيلول، انهار مصرف واشنطن ميوتوال: كان ذلك أكبر إفلاسٍ مصرفي في التاريخ. ومرةً أخرى، تدخلت جي بي مورغن ودفعت 1.9 مليار دولار لأصولٍ كانت قد قيّمت بـ176 ملياراً.
خسر فاني ماي وفريدي ماك، المصرفان اللذان اشترتهما الدولة والمسؤولان عن 80 % من قروض الرهون، نحو 90 % من قيمتهما أثناء الصيف. كانا مسؤولين معاً عن نصف القروض غير المسددة، لكن مقابل كل دولار احتياطي، كانا مدينين بثمانين دولاراً.
كي يضمن الاحتياطي الفدرالي بقاء فاني ماي وفريدي ماك، تدخل وأصبح يتحكم بهما. في السابع من أيلول 2008، وضعا تحت الوصاية، وهو ما يدعى بالتأميم في أرجاء أخرى من العالم، لكنّ الأمريكيين يتبرّمون من كل مهارةٍ حكومية تتطلب زيادة الضرائب.
في الحقيقة، أعطت الحكومة هامش إقراضٍ غير محدود. وبما أنّ هذا الهامش أتى من الاحتياطي الفدرالي لا من الخزينة، تمكن من تجاوز الحصول على موافقة الكونغرس. ثم باعت وزارة الخزينة سندات الخزينة بالمزاد العلني لجمع أموالٍ مكرسة فقط للاحتياطي الفدرالي. لكنّ دافع الضرائب هو الذي موّل الإنقاذ. استنزف المصرفيون النظام بعشرة مليارات من الدولارات في عمليات التحوط والمضاربة على المشتقات، وأثاروا تجميد نظام القروض بين المصارف، الذي توقف عن العمل وانهار.
جرى تعريف الاستيلاء بأنه إنقاذٌ بقيمة 700 مليار دولار تعسفية، وهو أمرٌ لا يحل شيئاً من المشكلة. لم يطلب أحد من أي اقتصادي تقديم رأيه للكونغرس، وكل ما يفعله هذا القرض هو إدامة أسطورة أنّ النظام المصرفي لم يمت حقاً.
في الحقيقة، لن تكون قيمة الأضرار 700 مليار دولار، بل نحو خمسة تريليون دولار، أي قيمة رهون فاني ماي وفريدي ماك.
العالم يدفع الثمن
في تشرين الأول، أفلست أيسلندا بأكملها، فقد اشترت قروضاً عقارية ذات مخاطر كاستثمارات. بدأت المصارف الأوروبية تنفجر، إذ كانت كلها ترغب في شراء أسهمها المتضخمة لتسديد ديونها بأسعار فائدة منخفضة قبل أن ترتفع مجدداً. في العام السابق، كانت المؤشرات واضحةً حين انهار كاونتريوايد، أكبر مقرِض عقاري أمريكي. بعيد ذلك، غرق أكبر مقرِضٍ في المملكة المتحدة، ناذرن روك: كانت لندن تنسخ منذ زمنٍ طويل نظام وول ستريت المالي الخلاق. انخفضت قيمة أسهم شركات تصنيع السيارات اليابانية والكورية بنسبة 37 %، ما أدى إلى تقلص اقتصادات العالم بأكمله. كما أنّ باكستان هي أيضاً على حافة الإفلاس، باحتياطياتها الحقيقية البالغة ثلاثة مليارات دولار، وهو مبلغٌ يكفي لشراء احتياطيات غذائية ونفطية لمدة شهر ومحاولة تجميد تسديد مستحقاتها للسعودية التي تزودها بمائة ألف برميل من النفط يومياً. في عهد الرئيس مشرّف، الذي ترك السلطة في الوقت المناسب تماماً، خسرت العملة الباكستانية 25 % من قيمتها، ووصل تضخمها إلى 25 %.
في هذه الأثناء، ارتفعت أسعار الطاقة كالسهم، وبلغ سعر النفط ذروةً قاربت 150 دولار للبرميل هذا الصيف. سرعان ما جرى تكبيد المالكين، المستنزفين أصلاً، كلف التدفئة والنفط والنقل والإنتاج. مع أنّ 30 % من كلفة إنتاج برميل النفط تستند إلى المضاربات في وول ستريت، وارتفعت إلى 60 % في الصيف بسبب خشية المضاربين. ما إن ضربت الأزمة المالية حتى انخفضت أسعار النفط فجأةً، من 147 دولار في حزيران إلى 61 دولار، وهذا يبرهن على أنّ نسبة 60 % لعامل المضاربة كان دقيقاً تماماً. كما كشف هذا الانخفاض المفاجئ عدم تحكم الأوبيك بالارتفاع الكبير للأسعار في السنوات الأخيرة، وهو تحكمٌ يقع بصورةٍ شبه مباشرة على كاهل السعودية. في أيلول، حين حاولت الأوبيك المحافظة على أسعارٍ أعلى بخفض الإنتاج، صوتت السعودية ضد مثل هذه المبادرة، على حساب دخلها الخاص.
قررت أوروبا حينذاك بأنها لن تفلس بعد ذلك بسبب إفراطات الولايات المتحدة. ربما كانت «القارة العجوز» قد سئمت بما يكفي من إملاءات الولايات المتحدة، التي رفضت إجراء تسوياتٍ على القروض التي تعاقدت عليها بلدانها المنهارة بعد الحرب العالمية الثانية. في تشرين الأول، أيدت أمم أوروبا، التي كانت في الماضي منقسمة، من جانبٍ واحد خطة إنقاذ تبلغ قيمتها 2.3 تريليون دولار، وهو ما يمثّل ثلاثة أضعاف الخطة الأمريكية لمواجهة كارثةٍ تسببت بها الولايات المتحدة وحدها.
الانهيار
في منتصف تشرين الأول، محت مؤشرات داو وناسداك وإس أند بي 500 كل أرباحها المتراكمة في العقد المنصرم. أدت الحيلة الهرمية للمال السهل انطلاقاً من لاشيء إلى فرط وفرة الائتمان ومبالغة في أسعار المنازل وتقييم غير معقول للأسهم، نتج عن أنّ المستثمرين لم يكونوا يسحبون أموالهم في وقتٍ واحد. لكنّ كل شيءٍ انهار بسرعةٍ مذهلة..
أولئك الذين سيعانون أكثر من غيرهم هم الرجال والنساء الذين بنوا البلاد بعد الحرب العالمية الثانية وبلغوا سن التقاعد بعد أن وفّروا تعويضاتهم التقاعدية. لقد بنوا طيلة سنوات الحرب، صنعوا الأسلحة للنزاعات العالمية. لا تستفيد الولايات المتحدة إلا حين تكون هنالك حرب!!
رأى الشرق الأوسط حليفه التاريخي يتحول إلى أسوأ كوابيسه، عسكرياً واقتصادياً. لن تواصل هذه الأمم دعم الدولار بوصفه العملة العالمية. لم تعد الولايات المتحدة تتحكم بالاقتصاد العالمي، وهي مدينة لبقية بلدان العالم. لن تطلب بعد الآن من أكبر مزوديها بالنفط في الشرق الأوسط أن تفتح محافظها المصرفية لتكون شفافة وتبرهن على غياب الفساد أو الصلات الإرهابية دون أن تكون هنالك عواقب: لقد ارتكبت الولايات المتحدة للتو أكبر فسادٍ إجرامي في التاريخ.
كان ذلك أفضل احتيال في المدينة: أن يكون أجرك جيداً لتبيع بكمياتٍ كبيرة مع المجازفة وتفشل وتترك الحكومات تحل المشكلة على حساب دافعي الضرائب الذين لم يروا فلساً واحداً من الثروة العامة.
ما من حلٍ سهلٍ للأزمة، ومفاعيلها تتفاقم كمرضٍ سارٍ.
الفشل التام للرأسمالية
من سخرية القدر أنّ المصارف الإسلامية كانت الأقل تأثراً بالأزمة. لقد تمتعت بحمايةٍ كبيرة من الانهيار، لأنها تحظر الاستحواذ على الثروات بالقمار (أو الكحول أو التبغ أو العري أو الأسهم في شركات التسلح)، وتمنع شراء وبيع دين، وكذلك الربا. فضلاً عن ذلك، تحرّم قوانين المصارف الإسلامية الاستثمار في شركةٍ تزيد ديونها عن 30 %.
منذ ثماني سنوات، في أيار 2000، قدّم المصرفي السعودي د. نايف بن فواز الشعلان سلسلة محاضراتٍ في دول الخليج. في تلك الفترة، أظهرت أبحاثه أنّ الاستثمارات العربية في الولايات المتحدة تبلغ 1.5 مليار دولار، وهي في واقع الأمر رهينة، وأوصى بسحبها وإعادة استثمارها في أصولٍ ملموسة للسوق العربية والإسلامية. «لكن ليس في أسهم، إذ يمكن التلاعب بالبورصة عن بعد، كما رأينا في السنوات الأخيرة في الأسواق العربية، حيث تبخرت مليارات الدولارات».
ثمّ أعلن يقينه بأنّ النظام الاقتصادي الأمريكي على حافة الانهيار، بسبب ديونه التراكمية والتزايد المستمر لعجزه وفائدة هذه الديون: «حين تستحق هذه الديون والعجوزات التسديد، سوف يصدرون ببساطة سندات خزينة جديدة، لتغطية السندات القديمة التي آن سدادها، بفوائدها وعجزٍ جديد». لا يمكن توقيف الدورة أو إلغاء الديون لأنّ الولايات المتحدة لن تعود قادرةً على الاستدانة. سينجم عن إصلاح هذه الدورة انهيار نظامها الاقتصادي، في مقابل الانهيار الجزئي للعام 2008، رغم ضخامته.
أكّد حينها الدكتور الشعلان: «يكمن الفارق الأساسي بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظام الاقتصادي الرأسمالي في أنّ الثروة في الإسلام ملكٌ لله، والفرد ليس سوى مدبّرٍ لها. إنها وسيلةٌ لا غاية. أما في الرأسمالية، فالأمر معاكس: المال ملك الفرد وهو هدفٌ بحد ذاته. وفي الولايات المتحدة خصوصاً، يجري تبجيل المال كأنه إله».
في المحصلة، نتج انهيار النظام الاقتصادي العالمي عن الوقاحة الضريبية في الولايات المتحدة، المؤسسة على نمطٍ من التنظيمات خاصٍ بها، وآخر لبقية العالم. لقد خدع تمويلها الابتكاري المتزايد شعبها عبر منحه إحساساً كاذباً بالأمن، وأصبحت البلاد تشبه الفشل التام للرأسمالية.
كادت كل ممارسة الديمقراطية بالقوة ضد الأمم العربية الإسلامية أن تضع الولايات المتحدة موضع الإفلاس. انتهت الحرب الباردة ولم يعد لدى الولايات المتحدة ما تقدمه: لا صادرات ولا حماية ولا اقتصاد في قطاع الخدمات والقليل من الموارد الطبيعية.
الأسواق التي قاومت أكثر من غيرها السياسات الأمريكية، عبر تقييد الاستثمارات المباشرة في الولايات المتحدة، هي ذاتها التي تتدبر أمرها بصورةٍ أفضل وستنهي السباق في المقدمة.
لكنها لن تفعل قبل أن تدفع ثمناً باهظاً.
29 تشرين الأول 2008
* تانيا كارينا هسو باحثة سياسية، وهي أول من كسر جدار الصمت بصدد التأثير الإسرائيلي على القرار الأمريكي. تؤلف حالياً كتاباً حول السياسة الأمريكية في السعودية.
ملاحظة: المادة منشورة كاملة على موقع قاسيون..