الحبس ذخيرة فاسدة
في واحدة من أسرع المحاكمات، تم الحكم (بالجملة) على أربعة من رؤساء تحرير الصحف (غير الحكومية) بالحبس سنة وغرامة 20 ألف جنيه وكفالة، 10 آلاف جنيه لكل منهم. وهم عادل حمودة رئيس تحرير جريدة الفجر، وعبد الحليم قنديل رئيس تحرير جريدة الكرامة السابق، وإبراهيم عيسى رئيس تحرير جريدة الدستور، ووائل الابراشي رئيس تحرير جريدة صوت الأمة. الحكم سيجري استئنافه، أما الكفالة فهي واجبة الدفع لإيقاف التنفيذ لحين البت في الحكم أمام الاستئناف.
لقد سبق أن وعد رئيس الجمهورية بإلغاء عقوبة الحبس للصحفيين وأصحاب الرأي (ذلك أن القانون يخص الصحفيين وأصحاب الرأي المكتوب والمسموع والمرئي على السواء). قبل وعد الرئيس تم حبس صحفيين، وتحت وعده تم حبس صحفيين، أبرزهم أحمد عز الدين، الصحفي والكاتب والخبير الاستراتيجي البارز الذي صدر حكم بحبسه عامين وغرامة 20 ألف جنيه بسبب كشفه عن فساد الكبار وسياساتهم رغم تقديمه للوثائق والمستندات التي لم يتم الأخذ بها، والشهود الذين لم يتم استدعاؤهم للشهادة، ولا يزال الحكم قائماً. بل وتم فرض حصار محكم عليه.
لن أتناول الحكم وحيثياته بالتعليق، ولكن القضية الأهم، خصوصاً بعد التعديلات الدستورية والترويج الهائل الذي صاحبها بأن مصر تعيش أزهى عصور الديمقراطية. القضية الأهم هي ما تخدمه القوانين التي تقضي بحبس أصحاب الرأي في الظروف الراهنة.
لماذا حبس الصحفيين وأصحاب الرأي؟
أواسط التسعينات اشتعلت قضية حرية الصحافة بسبب قانون يحد منها. وقامت الدنيا ولم تقعد إزاء تصميم السلطة أيامها على تمرير القانون. ودخلت أحزاب المعارضة التي كانت تملك قدراً من الفاعلية إلى الحلبة، وتحرك الصحفيون والمثقفون. وانعقد أكبر مؤتمر سياسي جماهيري مشترك للأحزاب، واحتشد فيه قرابة 12 ألف شخص من كل ألوان الطيف السياسي. وألقى رؤساء الأحزاب خطاباتهم للتنديد بالقانون، وكان خطابي كممثل للشيوعيين بعيداً عن العمومية والتجريد، إذ ركزت على السبب الكامن وراء القانون، وهو سياسات السلطة التي تحتاج إلى حماية من الرافضين لها وبالتالي تجريم معارضيها والزج بهم إلى السجون. إذ كانت السلطة قد أوغلت بشكل سافر في تنفيذ تعليمات المؤسسات المالية الدولية، كما كانت التداعيات الاجتماعية لها تلقي بثقلها الكبير على كاهل غالبية الشعب، وتزيد من تفاقم الأزمة الشاملة التي تعيشها البلاد. وتم إدخال بعض التحسينات على القانون وتم تمريره متضمنا عقوبة الحبس.
ولم تتوقف إثارة الموضوع، واشتعل من جديد إزاء إيغال السلطة في حبس الصحفيين وأصحاب الرأي الذين يتصدون لسياسات السلطة وللفساد. وصدر وعد رئيس الجمهورية بإلغاء عقوبة الحبس وتغليظ عقوبة الغرامة إذا ثبتت التهمة. لكن الوعد لم يتحقق على أرض الواقع.
الجديد الكامن وراء حبس الصحفيين:
إذا كان الكامن وراء حبس أصحاب الرأي هو حماية سياسات الطبقة الحاكمة وفسادها ونهبها، فإن الجديد هو تمرير توريث السلطة، وهو مطلب رجال الأعمال المتمترسين في الحكومة ولجنة السياسات في الحزب الحاكم التي يرأسها جمال مبارك، وهم يشكلون مع الرئاسة سبيكة واحدة وإرادة واحدة. وقد أصبح موضوع التوريث هو الشاغل الوحيد لهذه السبيكة كقضية وجود ومصير. ولا يعترفون مطلقا بوجود أزمة شاملة وعميقة تهدد الكيان الوطني. ولذلك فإن الحبس هو رسالة موجهة إلى كل معارض لهذا التوريث.
لكن التوريث مرفوض، مرفوض، مرفوض من أكثر من 70 مليوناً من المصريين، لأنهم يدركون أن إتمامه هو الضياع، وأن القادم في ظله أبشع بكثير من الوضع البائس الراهن.
إن مصر التي يعيش حوالي خمسين مليونا من سكانها حول وتحت خط الفقر، وأكثر من عشرين مليوناً قريبون ويقتربون منه، وتبلغ البطالة 30% من قوة العمل، و3 مليون من أطفال الشوارع، والقائمة تطول، مصر هذه لا تستطيع أن تتحمل استئثار 91 مليارديراً و100 ألف مليونير بها. إن البلاد مقبلة على انفجار أكيد والسكون الراهن هو ما يسبق العاصفة.
العمى السياسي والاستراتيجي:
لاتعي هذه السلطة ما يجري في المنطقة، مثلما لا تعي حجم النار السارية تحت الرماد في الوطن. فالمنطقة مقدمة على الاشتعال بفعل إصرار أمريكا والكيان الصهيوني على شن الحرب على سورية وإيران. وهو ما يتطلب تهدئة وتهيئة الجبهة الداخلية في مصر التي سوف تطالها النار شئنا أم أبينا. لا تعي السلطة في مصر ماذا تعني سورية بالنسبة للمصريين (وهي مسألة لا تحتاج إلى إفاضة). إن الحرب الوشيكة قد تم الانتهاء من صياغة مبررها بإقحام أكذوبة التعاون الكوري الشمالي – السوري نووياً. وهي حجة تتسق من وجهة النظر الإستراتيجية في الإقدام على الحرب. إذ يتطلب الأمر توحيد الحجة لذلك. أي عدم تفاوت القوة بين الحجج. ولا حجة أقوى من القضية النووية المفتعلة والكاذبة. الحرب إذاً قادمة لا محالة والمنطقة مقبلة على الاشتعال وفي القلب منها مصر (غير) المهيأة لها أصلا. فهل يمكن في ظل هذه الظروف شديدة التعقيد والخطر أن ينهض حكم قضائي بالحبس لوقاية السلطة ومشروعها في التوريث؟
إن القانون (أي قانون) يكتسب قوته وحجيته من ملائمته للواقع الاقتصادي – الاجتماعي والسياسي. وحينما لا يتلاءم القانون وتطبيقه مع الواقع فانه يأتي بعكس المراد منه تماماً. إنه يكون مثل ذخيرة فاسدة تنفجر فيمن يطلقها. وهذا ما سوف يحصل.