العد التنازلي يستمر، و«الصفر» يحدده تنازع المصالح العدوانية..
بغض النظر عما وصف إعلامياً بـ«التراجع عنها» لاحقاً، فقد جاءت تصريحات وزير الخارجية الفرنسية الأخيرة بخصوص توجيه ضربة عسكرية لإيران - خلافاً للموقف الأوربي المعلن دبلوماسياً - كشفاً للدور الجديد المرسوم صهيونياً لفرنسا ساركوزي (ذي الأصول اليهودية) والمأمول من جانبها في الوقت ذاته بقصد الحلول محل بريطانيا في موقع الحليف الاستراتيجي الأوربي رقم واحد لواشنطن في القضايا العالمية، وحتى لو كان ذلك يتضمن إيجاد حلول عسكرية على الطريقة الأمريكية الهوليودية التي يتبناها صقور المحافظين الجدد في البيت الأبيض والبنتاغون.
غير أن فرنسا بهذا المعنى، وعلى الرغم من استكمال واشنطن لتحضيراتها السياسية واللوجستية لشن العدوان على إيران، تضغط حتى على بعض العسكريين والسياسيين الأمريكيين الذين يتحسبون من توجيه الضربة الأولى لإيران، ويفضلون عوضاً عن ذلك في حساباتهم العسكرية، توجيه تلك الضربة لسورية من أجل خلخلة الحلقة الوسطى في الجبهة المستهدفة التي تجمع خط حزب الله – دمشق – طهران، ومن ثم الانتقال للحلقات الأخرى حسب تطور الوضع الميداني، أي البدء بحرب متوسطة الشدة وتوسيعها تدريجياً، دون أن يبدؤوا مباشرة بحرب مرتفعة الشدة، أي حرب عالمية. أما الذريعة لشن الهجوم على سورية أولاً، فقد تكون افتعال أية أحداث أمنية كبرى في لبنان، أو عدم انتهاء حالة الاستعصاء القائمة فيه بخصوص الاستحقاق الرئاسي لصالح الفريق الأمريكي السنيوري الحاكم هناك، وتمكن حلفاء دمشق من الحؤول دون وصول رئيس «أمريكي» للبنان. وقد تكون أيضاً «تحول سورية إلى مشروع قوة نووية بعد نقل المواد الكورية الديمقراطية إليها»، وهو سيناريو ستفضله إسرائيل، ولا تلغيه ضمن منطق الرسائل الإسرائيلية الملغومة والمتضاربة محاولات التطمين والتهدئة وفك الارتباط السوري الإيراني التي أطلقها رئيس الكيان الإسرائيلي من أن «فترة التوتر مع دمشق انتهت».
وضمن حسابات عسكرية أخرى، ليس من الضرورة أن تكون واقعية، بحكم تحديد طهران مسبقاً لألفي هدف تحت مرمى نيرانها في حال وقوع العدوان عليها، فقد يسعى سيناريو غلاة المحافظين الجدد في واشنطن إلى المسارعة لضرب إيران على مبدأ «علي وعلى أعدائي» ولو كان ذلك حرباً عالمية، وذريعتهم في ذلك قد تكون ما يكررونه حول «وجود ذخائر عسكرية إيرانية يجري استخدامها في العراق»، فتقوم قوات الاحتلال الأمريكية باستفزاز إيران لترد هي عليه، وتبدأ سلسلة متصاعدة من الفعل ورد الفعل. أما دافع هؤلاء في ذلك فهو مقدار تحسسهم لخطورة تفاقم أزماتهم الداخلية مع الانخفاض الجديد في قيمة الدولار مقابل اليورو (1،4)، وارتفاع أسعار النفط (قاعدة الانطلاق الجديدة 80 دولار للبرميل) وكذلك الذهب، واضطرارهم لتخفيض قيمة الفائدة على الودائع في البنوك الأمريكية وبورصة وول ستريت، وتفاقم الأزمة العقارية، ليتراكم كل ذلك على موروث بوش الابن في نهاية ولايته الثانية والأخيرة من ارتفاع حجم الدين الخارجي الأمريكي والعجز التجاري ونسب البطالة وانخفاض الإنفاق على التعليم والضمان الصحي والقيمة الشرائية للدولار مقابل تعزيز ميزانية البنتاغون للحروب الأمريكية القائمة والمخطط لها. وبالتالي تجد إدارة بوش نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما إما اللجوء لمغامرة عسكرية جديدة تخلط كل أوراق الاستياء الشعبي الداخلي تحت ذريعة «الضرورات الوطنية في مواجهة مع عدو خارجي»، أو الخروج مهزومة وبإرث ثقيل على مختلف الجبهات، تاركة إيران أشد بأساً بامتلاكها السلاح النووي.
وضمن كل هذه المعطيات والاحتمالات يبدو أن حكومة غوردون براون في لندن تدرك مسبقاً أحد أمرين: إما الخسارة العسكرية المرتقبة في أية مواجهة حالية مع طهران، بمعنى عدم القدرة على تفكيك البرنامج النووي الإيراني ولا إسقاط النظام وقلب المزاج الشعبي من حوله، فباتت تعلن أنها تريد الانسحاب من العراق قبل نهاية العام، كيلا تقع بين فكي كماشة حرب جديدة لم تردها، وهي في حال اقتصادية تقترب في سوئها من واشنطن مع إفلاس أحد أكبر مصارفها واضطراره للاستدانة من الحكومة، أو أنها تدرك أنه لن يكون لها مرة أخرى نصيب بالكعكة في حال تمكنت واشنطن افتراضاً من كسب معركة طهران، وبالتالي لا تريد المجازفة أصلاً.
وهذا، عود على بدء، يفسر بعضاً من التهافت الفرنسي لشن الحرب على إيران، ويجعلها (أي فرنسا) عند توسع تلك الحرب قوة للتوسط في سورية ولبنان، وهو وضع لن تحلم به في حال قررت واشنطن شن الحرب على سورية أولاً، لأن ذلك سيضعها خارج اللعبة وحلقة التأثير القوي والمباشر. ولذلك فهي تضغط باتجاه طهران لأنها تريد أيضاً الحلول مكان بريطانيا على أمل تحصيل جزء من الكعكة في ظل وجودها الاقتصادي القوي أصلاً في إيران دون أن تكرر سيناريو رفض شيراك للحرب على العراق و«خروجه من المولد بلا حمّص»، علماً بأنه يصعب تخيل سيناريو احتلال طهران. بل على العكس، فإن أي محاولة اعتداء عليها ستزيد من شعبية نظامها الذي حولها إلى قوة نووية تناطح أمريكا وتعتز بكرامتها الوطنية.
إن كل ذلك يؤشر على مدى تعمق وتخبط الأزمة الرأسمالية بطابعها الاحتكاري وبمراكزها الإمبريالية الكبرى، بمعنى القفز خطوة أخرى في اتجاه انسداد الأفق التاريخي أمامها، ولكنه في المقابل يبقي على الاحتمالات العدوانية مهما كان اتجاهها أو ضربتها الأولى، بما يعني مرة أخرى بالنسبة إلينا في سورية، ضرورة الارتقاء لمتطلبات التقاط لحظة البدايات الأولى للنهوض المعاكس، وفي مقدمة ذلك ضرورة التحضير الجدي لصد ذلك العدوان على كل الأصعدة، بما في ذلك الإتيان بحكومة مواجهة لا تستعدي المواطنين بمحاربتهم بقوت عيشهم، بل تحفزهم وتعزز ارتباطهم بالوطن، وترفع من جاهزيتهم المادية والمعنوية للدفاع عنه، وهم أهل لذلك، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.