حتى الرغيف لا يوحدنا
الرغيف يرمز إلى معيشة الناس ولاسيما الفقراء منهم. فعندما نتحدث عن حال الرغيف في لبنان فنحن إنما نقصد الوضع المعيشي في البلاد. إن ارتفاع سعر الرغيف في السوق يؤخذ مؤشراً على ارتفاع مستوى الأسعار وتالياً تردي المستوى المعيشي للناس بهبوط القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود.
في لبنان حلّت موجة من الغلاء في أسعار السلع الحياتية، ومنها رغيف الخبز، وبقيت الأجور والرواتب على حالها، فانخفض المستوى المعيشي العام في لبنان، ربما بنسبة40 في المائة خلال فترة وجيزة من الزمن، ومع غلاء الأسعار تفاقمت أيضاً ظاهرة البطالة في صفوف اليد العاملة بسبب ركود الحركة الاقتصادية العامة فازدادت أعداد المعوزين والمعدمين. فانعكس ذلك مزيداً من التدني في المستوى العام للعيش في البلاد، وارتفعت حركة الهجرة بين الشباب إلى الخارج.
الناس في معاناتهم يشكون ويتذمرون. ولكن صوتهم لم يتوحد في صرخة تطلق في وجه المسؤول، أو في وجه ممثليهم في مجلس النواب أو في وجه الطبقة السياسية عموماً. نسمع جلبة من الأصوات، أحدها يطمس الآخر، فيضيع الصدى. هنا أيضاً يعود السبب لمكمن الداء وآفة الآفات في بلدنا: الفئوية، المذهبية والطائفية. موجة الوجع من غلاء الأسعار سرعان ما تستحيل مطالب إسلامية في وجه مطالب مسيحية، ومطالب سنية في وجه مطالب شيعية أو درزية. وكل يلقي بالمسؤولية عن الوضع على كاهل قادة الفئة أو الفئات الأخرى. هكذا نطيّف حتى الملامات والشتائم والمآخذ واللعنات.
لا حاجة بنا إلى التنقيب عن مسببات الغلاء والبطالة، فالأسباب متشعبة ومتعددة ولكنها معروفة. من الأسباب أن عملتنا الوطنية، الليرة اللبنانية، مربوطة بالدولار الأمريكي ربطاً محكماً في السياسة النقدية التي يتبناها مصرف لبنان. وكان هذا الربط مصدر قوة واستقرار واطمئنان عندما كان الدولار قوياً في الأسواق العالمية. إلا أن الدولار أخذ بالانحدار السريع في عهد الرئيس جورج دبليو بوش بفعل السياسات الخرقاء التي اتبعها والتي تفجرت حروباً باهظة التكلفة في شتى أرجاء الدنيا، استنزفت الخزينة الفيدرالية الأمريكية، وكان أبرزها حرب أمريكا على أفغانستان ثم حربها الكارثية على العراق ومساندتها «إسرائيل» في حروبها ضد الفلسطينيين واللبنانيين مساندة بلغت حدود المشاركة الفعلية بالذخيرة والعتاد العسكري والدعم المالي، فارتفع عبء الدين العام في أمريكا ارتفاعاً ملحوظاً وارتفعت معه أعباء خدمة الدين بازدياد معدلات الفائدة ومجموع الدين العام، فآل كل ذلك إلى إضعاف العملة الأمريكية.
ولما كان لبنان بلداً مستورداً، بمعنى أن ميزانه التجاري سلبي، ترجح فيه كفة الاستيراد على كفة الصادرات، فإن هبوط قيمة الدولار الأمريكي في الأسواق العالمية اقترن بتراجع مماثل في قيمة الليرة الخارجية في تلك الأسواق، فتدنت القوة الشرائية للعملة اللبنانية إذ ارتفعت أسعار السلع المستوردة في السوق اللبنانية.
قد يقال إن العبرة في ميزان المدفوعات وليس فقط في الميزان التجاري. وفي لبنان ميزان المدفوعات كثيراً ما يعكس صورة أفضل من الميزان التجاري بفعل حركة السياحة الوافدة إلى لبنان، وهي حركة لا يستهان بها نسبياً في الأحوال العادية، وكذلك بفضل تدفق الأموال الخارجية إلى لبنان عبر جهازه المصرفي الحيوي والناشط ومصدرها الاغتراب اللبناني والمتمولون العرب وبخاصة في بلدان الخليج العربي الغنية بالنفط. وقد نعم لبنان من رذاذ فورة النفط الأخيرة فكان في ذلك سند للاقتصاد اللبناني في ظروف دقيقة.
إن الدفق المالي الذي ينصبّ على الحسابات في المصارف وبعضه يشق طريقه إلى مشاريع استثمارية داخل الاقتصاد اللبناني، يؤدي دوراً مهماً في الحفاظ على قوة الليرة اللبنانية واستقرارها، ولكن استمرار ارتباط الليرة بدولار أمريكي يتدحرج جعل الليرة تهبط معه بالتلازم، الأمر الذي أدّى عملياً إلى انخفاض القوة الشرائية للعملة اللبنانية وبالتالي غلاء أسعار السلع المستوردة من خارج أمريكا ومعها هبوط في مستوى المعيشة للفرد في لبنان.
يضاف إلى ذلك أن الأزمة السياسية التي ما فتئ لبنان يتعرض لها منذ أكثر من ثلاث سنوات، وتحديداً منذ أيلول 2004 والتي تخللها أحداث أمنية جسيمة في مسلسل الاغتيالات والتفجيرات والتظاهرات الحاشدة، هذه الحالة أضعفت حركة السياحة في لبنان كما حولت جزءاً غير يسير من الدفق المالي الوافد إلى لبنان نحو مراكز مالية بديلة في أوروبا وسائر أرجاء العالم. وكانت فترات خلال هذه المرحلة أصبحت التحويلات المالية إلى الخارج أو إلى العملات الأجنبية داخل لبنان تزيد على حركة التحويل في الاتجاه الآخر، أي لغير مصلحة لبنان.
هكذا يبدو جلياً أن قضية الرغيف، في جزء لا يستهان به منها، تعود إلى حال التدهور السياسي والأمني، وإذ ترتبط حالة الرغيف بالسياسة إلى مدى ملحوظ، فإن حالة الرغيف تغدو مسيّسة وبالتالي مطيّفة. فعندما تكون المسألة سياسية في جذورها فإن معالجتها تغدو محكومة بتشرذم القرار السياسي على ساحة التناقضات المذهبية والطائفية لا بل تغدو مختصرة بحملات التلاوم، إذ تنبري كل فئة إلى تحميل قادة الفئات الأخرى تبعات تردي الأوضاع العامة.
هكذا، حتى الرغيف لا يوحّد اللبنانيين. فهل نغالي إن قلنا إن لبنان في حاجة إلى إصلاح شامل، والإصلاح السياسي هو مدخل الإصلاح الشامل، ومفتاحه قانون انتخاب فاعل وعادل. والإصلاح الاقتصادي بما في ذلك التصدي للأزمة المعيشية، هو حلقة أساسية وحيوية من حلقات الإصلاح الشامل المنشود.
نقول هذا ونحن عاجزون عن انتخاب رئيس للجمهورية حتى بعد التوافق على مرشح متميز هو قائد الجيش العماد ميشال سليمان. فكيف ومتى يكون إصلاح سياسي يُفضي إلى معالجة شأن الرغيف ونحن على ما نحن فيه من حال؟
لا نهاية لمحنتنا إلا بوحدة موقفنا، في إطار وحدة وطنية حقيقية، أي غير منخورة بنفاق أو فساد سياسي. آن الأوان أن يوحّدنا الرغيف في الانتفاض لإنقاذ وطننا من أضاليل السياسة والسياسيين رحمةً بمستقبل وطننا لا بل أولادنا وأحفادنا.
• عن «السفير» اللبنانية