مستقبل الشباب الفرنسي بين العولمة و الأمركة
كشفت الأزمات الاجتماعية التي عاشتها فرنسا مؤخراً عن هوة هائلة بين الشباب والشرائح الأكبر سناً، وبالطبع بين اليمين واليسار السياسي الذين كانوا حاضرين بقوة في كل هذه الحركات الاحتجاجية واعتبروها فرصة ليدقوا ناقوس الخطر حول مستقبل الشباب الفرنسي.
أصل الحكاية يرجع إلى الحملة الانتخابية لنيكولا ساركوزي الرئيس الحالي لفرنسا وهو الذي لا يخفي إعجابه بالنموذج الأمريكي، منتقداً نموذج العمل الفرنسي الذي يحدد ساعات العمل بـ35 ساعة ومعتبراً أن هناك الكثير من الميزات الاجتماعية التي تعطيها الدولة لبعض الفئات والتي يجب إعادة النظر بها، فالوضع الاقتصادي للجمهورية الفرنسية أصبح مقلقاً. وهو ما أعاد التأكيد عليه رئيس الحكومة فرانسوا فييون عندما قال إن فرنسا على حافة الإفلاس مشيرا إلى عبء ثقيل للديون تحمله الدولة. وعندما انتخب ساركوزي رئيساً اعتبر أن ذلك بمثابة موافقة شعبية على مشروعه الإصلاحي و بدأ بتطبيقه.
الجامعات الفرنسية أصبحت مهددة بقانون يدعى «قانون استقلال الجامعات» و هو يسمح لها باللجوء إلى وسائل تمويل خاص. غير أن مجرد هذا التلويح قوبل بصرخة من الشباب الفرنسي، فسدّ الطلاب منافذ أكثر من أربعين جامعة وتوقفت الدروس بشكل كلي أو جزئي. وطفا على السطح نقاش عميق بدا من خلاله أن صورة فرنسا في ذهن الشباب الفرنسي مختلفة لدرجة تخال أنك تسمع فيها عن فرنستين!!!
ففرنسا بالنسبة للبعض صنيعة ثورات أبرز ما نادت به العدالة والمساواة وميزات اجتماعية لذوي الدخل المحدود. وهؤلاء الشباب يخشون من تدخل التمويل الخاص في جامعاتهم ويتوقعون زيادة في القسط السنوي وحذف اختصاصات بكاملها لاسيما في الاختصاصات الأدبية. فمن هو المستثمر الذي سيدفع أمواله للاستمرار في تدريس اختصاص اللغات السامية مثلاً؟ يتساءل هؤلاء مستشهدين بما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية حيث أغلقت عشرات الكليات بحجة أنها غير مربحة، منها تلك التي تدرس اللغة الفرنسية!
أما الصورة الأخرى لفرنسا فهي الدولة المفلسة، المتراجعة في مجال التعليم، ويُخرج أصحاب هذه الفكرة من حقيبتهم إحصاءات تؤكد أن قائمة الجامعات التي تشغل ترتيب أفضل خمسين جامعة في العالم تحوي على جامعات في سنغافورة لكنها لا تحوي اسم واحد لجامعة فرنسية ويتغنى هؤلاء بالمستوى المتقدم الذي تحققه الجامعات الأمريكية لاسيما في الاختصاصات التقنية، ويقولون إن اليوم اختلف عن البارحة وزمن العولمة يفرض نموذجاً أكثر نجاحاً هو النموذج الأمريكي.
وبين العولمة Mondialisation والعولمة على الطريقة الأمريكية Globalisation، تدور كل النقاشات اليوم في فرنسا فعمال قطاع النقل يتساءلون ما إذا كان الاندماج الفعال في اقتصاد اليوم المعولم يستدعي من الدولة إلغاء ميزات اجتماعية كانت أعطتها لعمال هذا القطاع، منها أنهم يعملون 37 سنة ونصف مقابل 40 سنة عمل في باقي القطاعات للحصول على التقاعد. فتجيب الدولة بأنه يجب إلغاء الميزات الخاصة وتطبيق القانون نفسه على الجميع. فيرد العمال لماذا لم تلغ الميزات الخاصة لنواب البرلمان وللجيش وعمال الإطفاء؟ ولماذا عدلت الدولة النظام الضريبي ليخدم أصحاب الثروات ما دامت بحاجة إلى تسديد ديونها؟
كذلك عمال القطاع العام يحتجون على انخفاض قدرتهم الشرائية ويقارنون بإجراء اتخذه الرئيس نفسه منذ أيام حين رفع راتبه بـ140% و كذلك يحتجون على حذف نحو ثلاثة وعشرين ألف وظيفة خصوصاً في مجال التعليم. والحكومة ترد معترفة بأن رواتب موظفيها غير جيدة ولكنها وجدت الحل: فبعد حذف الوظائف، ما على الباقين إلا العمل ساعات إضافية لتحسين رواتبهم طبقاً لوصفة الرئيس ساركوزي الشهيرة: «اعمل أكثر تكسب أكثر»..!