ديمقراطية الإعدام خارج القانون
اقتربت العاصفة من نهايتها، هكذا ظاهريا فقط. ذلك أنها ذهبت إلى نقطة تجمع العاصفة الأكبر. تلك هي عاصفة غرق قوارب الصيد المتهالكة التي أقلت شباب مصر باتجاه شاطيء الحلم الأوربي هرباً من البطالة والجوع في وطنهم.
ظن أولياء الأمر أنه سيتم دفن الموضوع مع جثث الضحايا بمجرد صدور فتوى دينية بأن هؤلاء ليسوا شهداء لأنهم مجرد طماعين يسعون وراء الكسب، ثم وعود بإنهاء البطالة، ومطاردة من قاموا بترحيلهم، لكن هذه المسائل لاتسقط بالتقادم، وهبت عاصفة أخرى تخص خمسة آلاف مصري يعيشون في الكيان الصهيوني، متزوجين من إسرائيليات (لاندري كم منهن فلسطينيات وكم يهوديات)، لكن جميعهم أو غالبيتهم الساحقة حصلوا على الجنسية الإسرائيلية مع احتفاظهم بالجنسية المصرية.
هذه الواقعة المفجعة كشف عن حجمها وعمقها برنامج في قناة تلفزيونية خاصة، وبأنها ليست مجرد حالات قليلة وفردية واقامة مؤقتة.
وأود أن أشير الى أنني أحمل تقديراً عالياً لأشقائنا الفلسطينيين الصامدين في الأراضي المحتلة عام 1948 في مواجهة العنصرية والمطاردة والاضطهاد، ولكن زواج المصريين وإقامتهم في الكيان المعادي وحصولهم على جنسيته شيء آخر، ومن حقنا أن نتساءل عن سبب ترحيب العدو الصهيوني بهذا العدد الكبير من المصريين، في ذات الوقت الذي توجه فيه التهديدات كل يوم بطرد من تبقى من الفلسطينيين في بلادهم المحتلة منذ 1948.
لقد عاصرنا المعركة السياسية ذات الطابع الديني والعنصري التي نشبت بسبب هجرة اليهود الفلاشا الى الكيان الصهيوني، والتي قادها الحاخامات والمتدينون اليهود حيث شككوا في يهودية الفلاشا وعدم أحقيتهم في القدوم إلى الكيان الصهيوني، في حين كشفت أحدث دراسة إسرائيلية عن زيادة نسبة المتدينين اليهود إلى 80% مقابل 20% فقط من العلمانيين، وهاهم يقبلون الآن بمهاجرين مصريين مسلمين ومسيحيين؟ فما هو الجديد؟ وما هو الرابط بين هذا الأمر وقيام الكيان الصهيوني بإعداد كوادر من الفلاشا ودفعهم للعودة الى إثيوبيا للاستيطان حول بحيرة تانا (إحدى منابع النيل) كرجال أعمال يقيمون المشاريع. وبالمثل النشاط الواسع لتهويد أفارقة في دول هضبة البحيرات حيث بحيرة فيكتوريا (منابع النيل أيضا) وتحويل هؤلاء إلى رجال أعمال وخبراء وساسة في هذه الدول؟ ثم امتداد عمليات التهويد الى دارفور بالسودان المليئة بالاضطرابات (والبترول والثروات أيضا)؟ ووصول الأمر إلى عمليات تهويد تتم في الهند ذات العلاقات الضاربة في القدم مع العرب وذات الأهمية الاستراتيجية المتاخمة للعالم العربي وتخومه الإسلامية؟
ألا تعني كل هذه الوقائع خطة لحصار الإقليم كله من الخارج واختراقه من الداخل وتهديد أمنه القومي لإنجاز المشروع الصهيو-أميركي المدمر أي الشرق الأوسط الجديد؟
الحالة المصرية
هجرة الشباب المصري إلى الكيان المعادي مسألة شديدة الخطر. إنها نقلة نوعية في عملية التطبيع مع العدو.. ولكن ما هو سبب افتقاد هؤلاء الشباب للمناعة الوطنية والتخلي عن روح الانتماء؟ هل هو عيب أخلاقي، أو صعوبات معيشية فقط؟ بالطبع لا. رغم أن هذه أسباب جدية تدفع الى الهجرة حتى ولو كانت تحمل الموت غرقاً.
افتقاد المناعة الوطنية وروح الانتماء والصعوبات المعيشية الهائلة كلها نتائج، لكن السبب هو الاستدارة يميناً وصولاً إلى ما يسمى باقتصاد السوق والاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، أي التبعية المطلقة في كل شيء، وإنهاء أي دور للدولة اكتفاء بدورها القمعي المادي والروحي. في نظام السوق يصبح كل شيء قابلاً للبيع والشراء، حتى الأوطان ذاتها.
جوهر ديمقراطية السوق
في اليوم التالي لفضيحة بهذا الحجم الهائل للمصريين الإسرائيليين، كان يعقد بمنطقة البحر الميت بالأردن مؤتمر لرجال أعمال عرب يناقشون فيه اقتصاد السوق، وفيما أذيع من فقرات هذا المؤتمر أكد المشاركون فيه على الارتباط بين حرية السوق وبين الديمقراطية، ومن أن الديمقراطية هي اقتصاد السوق الذي يعطي برلمانات تخلق التوازن وتحقق المطالب الشعبية.
وبينما كانت تلك الوساخات تذاع، إذ بتقرير أمريكي عن فقراء عاصمة المال والاقتصاد الرأسمالي العالمي (نيويورك)، يقول إن بالمدينة 3ر1 مليون جائع لاتستطيع مراكز الوجبات المجانية تغطية سوى حاجات جانب منهم، أما الباقون فليموتوا جوعا تحت صقيع الشتاء.
فماذا صنعت ديمقراطية رأس المال في أغنى بلادها التي تنهب جانباً هائلاً من ثروات الكوكب؟ وماذا صنع الكونغرس، أضخم برلمان برجوازي في العالم لفقراء عاصمة الرأسمالية العالمية وليس لفقراء أمريكا كلهم؟ لاشيء! إن ديمقراطية السوق هي حرية النهب والسرقة والجوع، وهي في بلداننا إضافة لذلك، حرية المشاركة من موقع التبعية في نهب الأوطان وتجويع شعوبنا، مشاركة يقوم بها اللصوص والأفاقون والجهلة، فيقدمون الأوطان ذاتها للإمبريالية والصهيونية مقابل الفتات والحماية من غضبة الشعوب..