«أممية» لبنان «الخلاقة» والاستحقاقات السورية!

مع بدء توزيع هذا العدد يكون الموعد الممدد لجلسة انتخاب رئيس جمهورية «أممي» للبنان قد انتهى، وما لم تحصل معجزة توافقية ما (تسترجع زمن الأنبياء) لتجمع كل الفرقاء اللبنانيين والإقليميين والدوليين المستأنس برأيهم في إنجاز انتخاب الرئيس اللبناني العتيد، فعلى الأرجح ستبقى الحالة اللبنانية تسير إما باتجاه التفجير، أو باتجاه البقاء كفتيل انفجار سريع (بوجود محتمل لرئيسين وحكومتين أي برنامجين ومشروعين) أي إعادة إنتاج الاستعصاء والوصول إلى نتائجه التفجيرية التخريبية على مبدأ الفوضى الأمريكية الخلاقة، وهو ما مهد له سباق التتابع التدخلي السافر بين وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير والسفير الأمريكي في بيروت جيفري فيلتمان.

المخرج الجوهري في لبنان كما هو معروف يكمن في إزالة النظام السياسي الطائفي، ولكن هذا غير ممكن حالياً لأن الطبقة السياسية اللبنانية تحرص على إعادة إنتاج هذا النظام من أجل استمرارها، ولا هو مطلوب أمريكياً-إسرائيلياً على اعتبار أن هذا النظام التحاصصي هو النموذج المطلوب تعميمه أصلاً على دول المنطقة تباعاً بدءاً من العراق المحتل.
ووسط الاستعصاء اللبناني عادت الوفود الدولية والإقليمية تتقاطر على سورية في شأنين أحدهما لبنان والآخر «لقاء أنابوليس» ولتطلب منها بخصوص لبنان «التدخل» باتجاه محدد: «الضغط» على حلفائها هناك بالقبول برئيس تقبل به باريس ومن خلفها واشنطن وتل أبيب ومن خلفهما قوى 14 آذار، ولكن هل تملك سورية فعلاً «قوة الإملاء» على حلفائها؟ أم أنها يمكن أن تعطي رأيها وهم المعنيون بالتصرف؟ وما هو مبرر إحراج سورية بهذا المعنى مع حلفائها سوى زرع الشقاق بينهم؟ علماً بأن أحد أهم قادة المعارضة اللبنانية السيد حسن نصر الله رفع سقف الزانة كثيراً أمام الجميع بمن فيهم رئيس مجلس النواب نبيه بري «حليفه» بالذات في قضية تجاوز النصاب الدستوري في انتخاب الرئيس.
ويبدو واضحاً أن نصر الله يدرك تماماً من خلال «تعنته» أن ما يراد تمريره في لبنان هو سلة استحقاقات تتجاوز الكرسي الرئاسي لتتوسع باتجاه شكل الحكومة المقبلة ورئاستها ومن ثم تركيبة البرلمان ورئاسته إلى جانب التغييرات التي ستجري على الجيش والأجهزة الأمنية، أي أن احتمال وجود رئيس ترضى عنه قوى الموالاة ومن يدعهما خارجياً سيفضي إلى احتمال استكمال أمركة وصهينة لبنان في سلطاته الثلاث وأجهزتها بالكامل، التي ستكون واحدة من أولى مهامها هي نزع سلاح المقاومة وتطبيق «القرارات الدولية».
وإذا قبلنا بافتراض أن هذا الاحتمال في حال تحققه، ووجود الحريري الابن مثلاً على رأس حكومة لبنانية جديدة ستصبح معادية كلياً لدمشق، هو شأن لبناني داخلي صرف، فإن السؤال المطروح على سورية بعد التكيف مع وجود لبنان منقلب عليها هو ما العمل مع وجود حكومة معادية جديدة في الجوار؟ 
وضمن الاحتمال ذاته وإذا مرت «سلة الاستحقاقات اللبنانية» فإن السؤال التالي المطروح هو: ماذا يعني أي إدراج شكلاً أم مضموناً لقضية الجولان في حال حدوثه في أنابوليس إذا لم يكن هناك «عودة لاجئين» ولا «قدس» ولا «إزالة مستوطنات» ولا «دولة فلسطينية» مع استمرار إبادة قطاع غزة بوصفه إسرائيلياً «كياناً معادياً» مقابل المطالبة بالاعتراف بـ«يهودية» الكيان الإسرائيلي، وكلاهما مصطلحات قانونية تستوجب إجراءات محددة في القانون الدولي؟
وإذا كان «أنابوليس» حسب أولمرت هو «بداية مفاوضات» فما الذي جرى إذاً منذ مدريد وحتى الآن؟ مؤتمر مدريد فرّخ «اتفاق أوسلو» و«وادي عربة» و«خطة ميتشل» و«خارطة الطريق» والأسوأ «الجدار العنصري» وواضح أن المطلوب في انابوليس هو قضم المزيد من الأراضي والحقوق العربية وتثبيت أمر واقع تنازلي جديد.
وإذا كان المشروع الأمريكي يعتمد على العودة بشعوب المنطقة إلى مفاهيم ما قبل الدولة الوطنية وينفخ في رماد التباينات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية البغيضة، فإن أحد الأسئلة الملحة في قضية «ما العمل؟» الأساسية يقول: ما الذي يجري تقديمه لتمكين المواطن من امتلاك مصادر العيش الكريم ومصادر المعرفة والتثقيف و«التحضر الوطني» كيلا يصبح أسير هذه النعرات التي تطل عليه ليل نهار في نشرات الأخبار «غير السورية» وعبر مختلف البرامج الممولة بكثافة لغسل دماغه وتثبيت صور «العدو الوهمي» في أذهانه.
وفي ظل وجود فريق اقتصادي لدى الحكومة السورية يعلن رئيسه من لندن أجندته لعام 2008، ويغيب لديها «المشروع الوطني الصرف» واضح المعالم والمجسد بشكل ملموس لمصالح السواد الأعظم من الشعب سياسياً واقتصادياً-اجتماعياً وديمقراطياً، فإن من المبرر التساؤل حول ما هو مقدار انعكاس التحالفات الإقليمية أو الدولية، على أهميتها، على مفاهيم المواطن؟ وهل تشكل تلك التحالفات بديلاً عن هذا المشروع (وليس عن بعض مواقفه) أم داعماً له، ولاسيما أن لدى الحلفاء بطبيعة الحال برامجهم الخاصة أيضاً المنطلقة من مصالحهم وأرضياتهم الفكرية والسياسية والثقافية؟
إن «المطلوب» من هذا البرنامج «المطلوب» هو التفافته للمواطن السوري بتفاصيل همومه المعيشية، والتصدي «الذي يطعم خبزاً» لمظاهر التضليل الفكري والنفسي الذي يتعرض له في قناعاته الوطنية وتحليله لمجريات الأوضاع في ظل سياسة اقتصادية اجتماعية تهمشه وتسحق مصادر عيشه أكثر فأكثر، مع غياب حالة سياسية نشطة تبين له الخيط الأبيض من الأسود لدى الأعداء والخصوم وحتى لدى الحلفاء.
إن الصراع في المنطقة هو صراع بين منطق الهيمنة الذي تجسده سياسات قوى دولية كبرى متناحرة، ومنطق التحرر الكامن لدى شعوب مغيبة مصالحها والذي يجد بعض تعبيراته لدى بعض القوى والتيارات الملتقية سياسياً والمتباينة فكرياً وفي بعض الحالات استراتيجياً. إنه صراع مصالح، ولايمكن التعويل في نهاية المطاف إلا على مصادر القوة والمنعة الذاتية وفي مقدمة ذلك الشعب نفسه، لأن كل شيء ممكن في لعبة المصالح الدولية والإقليمية، وكل يعمل على مشروعه من موقع قوته وحجمها.
وإذا كان استفحال التحديات والتهديدات المنتصبة أمام شعوب المنطقة يطرح ضرورة تعزيز صمود المقاومات بالمعنى السياسي والعسكري في فلسطين ولبنان والعراق فإن الأكثر إلحاحاً هو ضرورة بلورة «مقاومة شاملة سورية خاصة» بمفاهيمها وآلياتها وأبعادها وتجلياتها في «الآتي من الأيام».