المفاوضات المتعثرة وسياسة الهروب للأمام!

دأبت وسائل الإعلام العربية والعالمية على تداول أخبار اللقاءات الفلسطينية «الإسرائيلية» بالمزيد من الضبابية- إن لم نقل السوداوية- بدليل ماتتناقله باستمرار من تصريحات لرئيس السلطة، ومسؤول ملف التفاوض. خاصة وأن (التغييرات الحكومية داخل كيان العدو) سمحت للمراقبين، بالتوصل لاستنتاج يقول بعجز هكذا حكومة عن التعامل مع القضايا الأساسية. كما أن حالة الإدارة الأمريكية التي بدأت تلملم أوراقها لمغادرة البيت الأبيض خلال الأشهر القليلة القادمة، قد أوصلت- مع أوضاع أخرى تعيشها هذه الإدارة- المتفاوضين إلى حالة الجمود الراهنة. بالإضافة للخلاف الفلسطيني الداخلي، حول جدوى المفاوضات في ظل الوضع القائم على الأرض، في تحقيقها لأية مكاسب للشعب الفلسطيني.

جاءت تصريحات رئيس السلطة مؤخراً خلال زياراته لبيروت وروما والقاهرة، لتوحي بوصول المفاوضات لأزمة حقيقية. فقد استبعد في معظم أحاديثه (التوصل إلى اتفاق سلام مع «الإسرائيليين» يشمل جميع القضايا قبل نهاية السنة. وأن لا يوقع على اتفاق لا يشمل القضايا الست الرئيسية). وهذا ماأشار إليه أحمد قريع رئيس الوفد المفاوض أثناء لقائه مندوب اللجنة الرباعية طوني بلير في أبو ديس (لن نوافق على تأجيل أو تأخير البحث في أي موضوع من مواضيع التسوية الدائمة بما في ذلك القدس واللاجئين). جاءت هذه المواقف، المترافقة مع التصريحات المتوازية التي أطلقها مؤخراً سلام فياض وصائب عريقات، لتدلل على طبيعة المأزق الذي وصلت إليه هذه اللقاءات المتواصلة، والمشمولة في رعايتها من سيدة الدبلوماسية الأمريكية، التي حرصت على مساهمتها الميدانية- ثماني عشرة زيارة- في حلحلة العقد المستعصية بما يتلاءم مع مصلحة حكومة العدو، التي تعمل على تطبيق بنود برنامجها الإحتلالي/الاستعماري، مستفيدة من ضعف سلطة رام الله المحتلة، التي فقدت منذ لحظة وجودها قدرتها على الحركة والمناورة و«السيادة» التي نفتها تماماً بنود اتفاق أوسلو.

في ظل هذه الحالة المأزومة، حاولت قيادة التفاوض ممارسة نوع جديد من «الضغوط» على حكومة العدو، والإدارة الأمريكية الداعمة لها. فقد تحدث رئيس الوفد المفاوض عن (أن أحد الخيارات الأبرز أمام الفلسطينيين هو الإعلان بشكل أحادي الجانب عن إقامة دولة فلسطينية). إن أية دراسة ميدانية، تؤكد استحالة تحقيق هذا الخيار، نتيجة الوقائع المثبتة على الأرض المحتلة منذ عام 1967 «الجدار الاحتلالي/التقسيمي، كتل المستعمرات، مصادرة الأرض والثروة الباطنية، الارتباط والتشابك الكاملين بالاقتصاد والبنى التحتية مع حكومة العدو، التقطيع والتفتيت للوحدة الجغرافية». وقد جاء هذا الموقف بعد مرور أيام قليلة، على حديث له، حول رؤيته للخروج من المأزق الراهن، من خلال اللجوء إلى خيار (الدولة ثنائية القومية). إن الرد على أزمة الاستعصاء التي تشكو منها الحالة التفاوضية بين الطرفين لاتتطلب القفز في الفراغ، بمقدار ماتستوجب العودة إلى البرنامج السياسي/ الكفاحي للحركة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن الفارق الكبير مابين تحقيق الدولة الفلسطينية بالإعلان الأحادي عن قيامها، والوصول لتلك الدولة الثنائية المتخيلة، مع مايتضمنه كل تصور، من إسقاط لحق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه المحتل مرتين 1948 و 1967.

وفي هذا الإطار من «الاجتهادات» المتطيرة، في سبيل البحث عن مخارج، جاء كلام «سري نسيبة» الأكاديمي المعروف بأفكاره المثيرة للجدل، وبعلاقته الحميمة مع أحد القادة الأمنيين السابقين في المؤسسة الصهيونية «عامي أيالون»، عبر عدة صحف «هآرتس» و«القدس»، عندما أكد على «الدولة ثنائية القومية»، مسقطاً حق المواطن الفلسطيني في وطنه، وداعياً لتحقيق «المساواة» في هذه الدولة العتيدة، داعياً إلى (استبدال الكفاح من أجل الاستقلال، بالكفاح من أجل المساواة في الحقوق وحق العودة). لكن نسيبة يدعو إلى إدراج هذا الحق- العودة- في صفقة للمقايضة (بالنسبة لنا، مهما كان حل قضية اللاجئين هاماً للفلسطينيين، فإن القدس أهم لهم ولباقي العرب والمسلمين. ومن أجل القدس سيوافق حتى اللاجئون الأكثر تطرفاً على تقديم التنازلات. لذلك نقول إن القدس هي المفتاح الوحيد للتنازل عن حق العودة). إن هذا الإعلان الخطير الذي يضع مصير القضية الوطنية في بازار المقايضة والتفاضل، يشير إلى وصول بعض دعاة الحوار والتفاوض، البعيدين عن الأضواء، إلى مراحل متقدمة في رسم ملامح التنازلات في المرحلة القادمة، مما ينبىء بحصول الانهيار الشامل.

إن وقف الانزلاق نحو الكارثة، مرهون بضرورة تحقيق توافق وطني عام حول برنامج العمل السياسي/الكفاحي للشعب الفلسطيني في كل مناطق تواجده. فالتمزق الجغرافي والسياسي والمجتمعي، أعطى للسياسة العدوانية الاحتلالية، مبررات البقاء والتمدد. خاصة وأن العديد من السياسات والممارسات داخل المؤسسات الإدارية والأمنية التي أوجدها اتفاق أوسلو، قد فاقمت من الأزمة الداخلية. كما أن الشرخ الكبير قد انتقل منذ فترة إلى داخل الأطر والصيغ التوافقية الفلسطينية. ومانقلته الأنباء عن الخضات العنيفة التي دارت في الإجتماعات التشاورية/التداولية التي تمت مؤخراً لأعضاء المجلس الوطني الفلسطيني الموجودين في عمان، تؤكد على أن التجاذبات والاختلافات حول إعادة تهيئة المجلس لتحمل دوره، والقيام بوظيفته، لم تعد مجال خلاف بين القوى السياسية، بل- ولاعتبارات عديدة- داخل اللون السياسي الواحد، لأن البعض يريد إعادة ترتيب المجلس، بأعضائه ومهامه، بما يتلاءم مع رؤيته.

في ظل هذا المشهد، لابد من خطوات جماهيرية، منظمة وفاعلة، تعمل على إعادة ضبط الحراك الراهن، وتوجيهه نحو لملمة الأوضاع الداخلية على قاعدة التمسك ببرنامج المقاومة.

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 19:04