إبراهيم البدراوي- القاهرة إبراهيم البدراوي- القاهرة

مفارقات 9 سبتمبر

في يوم 9 سبتمبر يكون قد مضى 127 عاماً على تظاهرة الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي في ميدان عابدين بوسط القاهرة. في ذلك اليوم من عام 1881 حدثت المواجهة بين الجيش والشعب وبين الخديوي توفيق. كان يقف خلف الخديوي مباشرة قناصل بريطانيا وفرنسا، بينما كان أبناء الفلاحين المصريين من ضباط الجيش وجنوده وحشود هائلة من المصريين يقفون في الميدان الواسع خلف أحمد عرابي. هكذا بدأت الثورة العرابية التي هُزمت بتحالف أوربي– عثماني داعم للخديوي العميل الذي انحاز إليه العديد من الخونة المصريين.

بعد 71 عاماً بالضبط ، وفي 9 سبتمبر1952، وبعد نجاح ثورة يوليو بحوالي شهر ونصف فقط ، صدر أول قانون للإصلاح الزراعي. لم يكن صدور القانون في هذا التاريخ محض مصادفة، بل كان يحمل دلالة عميقة. إذ كانت مطالب الجناح الذي يمثل يسار قيادة الثورة- من عسكريين ومدنيين- وعلى رأسه الأميرلاي (العميد) محمد بك عبيد والقائد السياسي والجماهيري الفذ عبد الله النديم خطيب الثورة تدفع باتجاه خلع الخديوي وإعلان الجمهورية والاستقلال عن الدولة العثمانية ومطالب اجتماعية في مقدمتها  توزيع الأرض على الفلاحين.

تتالت الأحداث وصولاً إلى آخر معارك الجيش المصري ضد الغزاة البريطانيين في «التل الكبير» شرق الدلتا، والتي جرت ليلاً بعد أن تسللت القوات البريطانية بمساعدة بعض الخونة والبدو في هجوم مفاجئ حيث مالت الكفة لصالح الانجليز وبدت الهزيمة وشيكة. انسحب القادة إلى القاهرة. لكن القائد البطل محمد بك عبيد رفض الانسحاب أو الاستسلام  واستمر في القتال إلى أن استشهد فوق مدفعه. وزحف جيش الأعداء إلى القاهرة حيث تم إلقاء القبض على كل قادة الثورة وتمت محاكمتهم، وتم نفي عرابي والعديد من رفاقه إلى «سيلان» وتم سجن الآلاف من الثوار.

مثل رفيقه الشهيد محمد بك عبيد لم يستسلم عبد الله النديم للأعداء وتخفى ما يزيد على عشرة  أعوام متنقلاً بين قرية وأخرى في ظروف شديدة الصعوبة والخطر. وحينما تم القبض عليه في عهد الخديوي الجديد عباس الثاني الذي أصدر عفواً في حقه، أمر السلطان العثماني باستدعائه إلى تركيا، وتم منعه من العودة إلى وطنه إلى أن توفي ودفن في منفاه.

بعد 70 عاماً من احتلال مصر الذي جرى عام 1882 نجحت ثورة يوليو في ظروف شديدة التعقيد والخطر، وجاء أول حاكم مصري للبلاد منذ 23 قرناً هو جمال عبد الناصر، الذي انطلق لبناء مشروع النهضة عبر معارك لم تتوقف. وتمت بقيادته منجزات هائلة في كل المجالات لم نعرف قيمتها سوى بعد تدميرها على يد السادات ومن بعده مبارك.

شهر سبتمبر له في نفسي وقع خاص. في 28 منه عام 1971 رحل جمال عبد الناصر بعد آخر معاركه لإنقاذ قادة الثورة الفلسطينية من عملية الإبادة التي شنها حاكم شرق الأردن. في سبتمبر 1979 كنت في سجن «طرة» مع العديد من الرفاق من بينهم الرفيق الشهيد زكي مراد والرفيق نبيل الهلالي. في سبتمبر 1981 كنت في السجن مع العديد من الرفاق منذ مارس من العام نفسه حيث لحق بنا الآلاف من السياسيين في حملة سبتمبر الشهيرة التي قتل على إثرها السادات بعد شهر واحد.

حل سبتمبر هذا العام والناس تتقاتل أمام المخابز للحصول على الخبز، وجبل المقطم ينهار فوق رؤوس البؤساء (نتيجة لفعل إنساني)، والملايين يعانون الجوع والتشرد والبطالة والمرض والقهر. ثم نفاجأ بقتل الفنانة اللبنانية بتحريض من أحد أهم المليارديرات الجدد، وهو الثالث من حيث الأهمية في عضوية لجنة سياسات حزب الجماعة الحاكمة بعد جمال مبارك وأحمد عز.

الأهم في الموضوع ليس هو عملية القتل المثيرة، ولكنه طبيعة الطبقة الحاكمة الآن في مصر. غالبية من كتبوا عن هذا الموضوع  توصلوا إلى أن الموضوع ثمرة لعلاقة الثروة بالسلطة، وهو استنتاج صحيح. لكن التداعيات التي ستتوالى غابت رغم أن عملية القتل هي واقعة كاشفة عما يحمله المستقبل.

المرحلة الراهنة هي مرحلة انحطاط النظام الرأسمالي برمته. في بلدانه الأكثر تطوراً كما في باقي البلدان التي تسيطر فيها الرأسمالية أيا كان مستوى تطورها. في مصر كما في البلدان المشابهة تم بناء الرأسمالية من أعلى وفي ظل التبعية، ونمت الطبقة بوتيرة سريعة للغاية، وضمت اللصوص وناهبي المال العام والأفاقين والنصابين وعديمي الضمير والأخلاق والجهلة، الذين استوردوا من سادتهم أحط ما في النظام الرأسمالي المنحط أصلاً، وأساساً النشاطات المافيوية والعنف اللامتناهي في امتصاص دماء الكادحين. واندفعوا بكل قوة يدمرون المنظومة القيمية والأخلاقية والثقافة الوطنية والبناء القانوني، وخرقوا الدستور وخالفوا قوانينهم ولم يحترموا حتى أحكام القضاء، ويتم استخدام قوة المال- المنهوب بمئات المليارات– في القمع المادي والروحي للناس في محاولات يائسة لتكريس استسلامهم للأمر الواقع.

ولذلك فليس مستغرباً أن يقوم الملياردير المحرض على القتل بإنفاق 14.5 مليون دولار على القتيلة، وأن يدفع للقاتل 2 مليون دولار، غير نفقات المطاردة. فهناك العديد من المؤشرات عن أن المسألة تنطوي على صراع مصالح حول «البزنس» أو السياسة.. الخ ، وليس «الجنس» وحده.

لكن الأخطر هو أن الطبقة الحاكمة التابعة قد قطعت شوطاً كبيراً على طريق شديد الخطر، هو طريق تكوين تشكيلات عصابية خارج القانون والدولة. وتتكون هذه التشكيلات من أعداد وفيرة من بينهم رجال أمن سابقون، وتحت أغطية وهمية (حراس شخصيون وشركات أمن خاصة)، أي أننا دخلنا مرحلة خصخصة الأمن بطرق ملتوية. و بصياغة أخرى فإن أساليب «فرق الموت» قد انتقلت من أمريكا اللاتينية  الناهضة إلى مصر. وتتردد همساً معلومات عن العلاقات المتشابكة لدى «البعض» مع شركات مثل بلاك ووتر عبر غطاءات دولية شبه سياسية  واجتماعية.

هنا مكمن الخطر الذي لا يلتفت إليه أحد، والذي سيمتد لتصفية حسابات سياسية. فليس هناك ما يمنع السيارات الجامحة، أو الخناجر المشهرة تحت جنح الظلام ، أو الرصاصات الطائشة... الخ من الفعل.

مع كل يوم يمر. يتجلى بشكل واضح خطر الطبقة الحاكمة وسلطتها السياسية على مصير الوطن. ولذلك فإن النضال ضدها لاجتثاثها وإلقائها في بالوعة القاذورات هو الواجب المقدس الذي لايمكن التقاعس عنه مهما كانت المخاطر والصعاب. لأننا حتى لو خسرنا فلن نخسر في النهاية سوى الأغلال. لكننا لن نخسر لأننا سنكسب الوطن.

آخر تعديل على الأربعاء, 30 تشرين2/نوفمبر 2016 00:29