العطف والحق
مأساة هايتي جعلت إدارات أغلب الدول تعطف على تلك الجزيرة المنكوبة، وجعلت الإدارة الأمريكية تحتلها عطفاً، وترسل لها المساعدات جنوداً وأمنا، كما جعلت إدارات الاتحاد الأوربي تؤيد كالعادة المساعي الأمريكية الحميدة في مجال الأمن والدفن.
وسواء كان العطف إنسانياً حقيقياً، أي يترجم بمختلف المساعدات الضرورية من الإنقاذ والغذاء والخدمات، أو عدوانياً، أي يترجم باستغلال الكارثة من أجل الاحتلال أو ما يشبهه، ومن أجل اختلاس بضائع وأموال المساعدات، فهل تستحق الجزيرة المنكوبة العطف فقط، أم لها حق على المجتمع الدولي؟
المجتمع الدولي؟ هو في حقيقته، وفي مواقعه، مؤلف من الإدارات الاستعمارية بزعامة الإدارة الأمريكية.
ذلك «المجتمع» هو الذي تسبب بنكبة الجزيرة إياها، وبنكبات مختلف مناطق العالم، بالتجارب النووية، بالحروب، بالإضرار بالبيئة، بالتدخل المباشر وغير المباشر في شؤون البلدان والشعوب، من جعل سكان الجزيرة بأغلبهم يعيشون بأقل من دولارين في اليوم؟ هل كان ذلك بالصدفة؟ من جعل الأبنية هشة، بدءاً من القصر الرئاسي؟
للجزيرة حق على ذلك «المجتمع» العدواني، لا بالعطف، أيا كان معناه، وإنما بإعادة الإعمار، وبإعادة الحياة الطبيعية والمقبولة إلى الجزيرة. غير أن هذا الحق لن تناله الجزيرة، لأن المسيطر على مختلف حقوق البلدان والشعوب هو «المجتمع» الاستعماري العدواني. وقضية الجزيرة ليست قضية قضاء وقدر، قضية زلزال دمر البلد، وإنما هي قضية أشمل من ذلك، قضية مجتمع استعماري يخيم على أقدار الناس، ويجعل مقاومتهم هشة أمام مختلف العوارض الطبيعية، أمام الجفاف، أمام السيول والعواصف، أمام الجراد والحشرات التي تتلف المزروعات، وأمام الزلازل وأيضاً أمام تسونامي.
فلسطينيو القدس وغزة ينقصهم حتى العطف الصوري أو الحقيقي، إلا من أفراد يصل بهم الحس الإنساني إلى درجة التضحية بأنفسهم، أو التعرض لخطر التضحية، فالأمريكية راشيل كوري قتلتها الجرافة الإسرائيلية بدم بارد، والمشاركون الدوليون والإسرائيليون في التظاهر ضد الجدار الشاروني يتعرضون للرصاص الإسرائيلي المطاطي وغير المطاطي وللقنابل الغازية، وقوافل شريان الحياة وغيرها يتعرضون للإهانات وللاعتداءات الأمنية... الخ.
الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينية وفي الشتات هم أصحاب حق، لا بالعطف، وإنما بالأرض، وبحق تقرير المصير، وليس هذا الحق تاريخياً، وإنما هو راهن، هو حق بالبيت الذي احتل ونهب، وبالأرض التي احتلت واستوطنت، وهو حق على الأقل بتطبيق القرارات الدولية، التي مسحت بها الإدارة الأمريكية مؤخرتها.
هذا الحق لن يناله الفلسطينيون لا بالمفاوضات، ولا بالتأوه والشكوى من موقف «الأشقاء» العرب أو المسلمين، (..) الحق الفلسطيني هو جزء من حق الشعوب في البلدان العربية بالتحرر من الكابوس الاستعماري، الذي يخنق الحريات، وينهب الثروات ويضري الحروب والفتن، ويجعل حياة كل إنسان في مهب الريح. والمقاومة الفلسطينية يمكن أن تكون فصيلاً طلائعياً للمقاومة العربية، ولكن لكي تكون كذلك من المفترض أن تحمل مسؤوليتين هامتين وأساسيتين، الأولى مسؤولية المستقبل، والثانية مسؤولية المناضلين الذين تجندهم المقاومة، فهؤلاء ليسوا حطباً للحرق، وإنما أداة تحرير للشعب، وربما أداة تحرير المنطقة.
الكلام نفسه ينطبق على حق الشعب العراقي بالتحرر من الاحتلال وباسترجاع سيادة وثروة ذلك البلد العظيم، الذي استمر منذ الحرب العالمية الأولى يصارع الاستعمار بشكليه القديم والحديث ويعمل على بناء نفسه، ويزرح اليوم تحت النير الهمجي للاحتلال الأمريكي.
ينطبق الكلام أيضاً على أفغانستان، البلد متعدد النكبات، الذي نكب أمريكياً ببناء مؤسسة «الإرهاب» الدولية، وبتمزيق تلك المؤسسة، وجعلها تتصارع دموياً، ثم أخيراً بالاحتلال الأمريكي، وجعل البلد مركزاً لعدوانية الإدارة الأمريكية الإقليمية في باكستان وغيرها.
الشعب الأفغاني ينقصه العطف والحق، فهو ليس في حساب أية إدارة، ومتروك لمصيره «الأمريكي»، أما حقه في التحرر وتقرير المصير والسيادة فمتروك للمستقبل البعيد.
الكرة الأرضية كلها خاضعة للنير الاستعماري، وليس الأمر متعلقاً فقط بالأمثلة الفاقعة التي مررنا عليها. حتى الشعب الأمريكي وشعوب «المجتمع» الاستعماري الدولي، تعيش في ظل الكابوس الاستعماري، الذي لا يستغل فقط، وإنما يسمم أيضاً حياة الشعوب والبيئة التي يعيش فيها الإنسان.
القضية هي قضية كونية، وليس أمام الشعوب من وسيلة لإنقاذ نفسها سوى المحاربة الجماعية للاستعمار. الشعوب المنكوبة لها حق بالحياة وبتقرير المصير، ولا تستحق «العطف» فقط.