خياران..
منذ سنوات ثارت في مصر أحاديث عن ظاهرة أطفال الشوارع. سرعان ما خرج المسؤولون لإنكار الأمر، والادعاء بأنها ليست ظاهرة، وإنما حالات فردية.
تثور منذ فترة أحاديث عن الاتجار بالأعضاء البشرية التي يتم الحصول عليها رضاءً بسبب فقر البائع، أو قسراً بالاحتيال والسرقة. وأخيراً تم ضبط عصابة تتاجر بالأطفال، إذ تقوم ببيعهم لأسر أمريكية.
هذه الأمور تحولت في الواقع إلى ظواهر وليست مجرد حوادث فردية.
منذ سنوات قليلة انتحر شاب حاصل على بكالوريوس من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق وتم رفض تعيينه بوزارة الخارجية رغم اجتيازه لامتحانها كأول المتقدمين، بسبب غريب هو عدم لياقته اجتماعياً «لأن والده عامل»!
منذ أسابيع انتحر مهندس لأنه خسر كل مايملك– ثلاثة ملايين جنيه أي ما يزيد على نصف مليون دولار– في البورصة المصرية المباركة.
عادت الأمراض الملازمة للفقر والتي كانت قد اندثرت تقريباً، مثل السل، «الدرن» و«الجرب» وفقر الدم الشديد وغيرها وغيرها، إلى جانب أمراض أخرى كالسرطان والفشل الكبدي الوبائي التي تفشت نتيجة لاستيراد كيماويات ومبيدات وأدوية مسرطَنة من العدو الصهيوني.
اعترفت الحكومة بظاهرة أطفال الشوارع بعد أن اتسعت، رغم وجود هيئات ومسؤولين على رأسها، وطبل وزمر ومجلس أعلى للطفولة...الخ. ولكنها لاتعترف بالظواهر الخطرة الأخرى. وما يحدث هو التأسي والمطالبة بتوقيع العقوبات على تجار البشر والأعضاء البشرية، وإغراق الناس في مناقشات أو فتاوى للتحليل أو التحريم، والتبرع لليتامى والفقراء، والدعوة للتوسع في العمل الأهلي وبذل الصدقات بديلاً عن الدور الاجتماعي للدولة. والأنكى هو محاكمة من كشفوا وفضحوا استيراد المواد المسرطنة رغم ثبوت هذه الجريمة وادانتها قضائياً... الخ.
لكن الولوج إلى الظواهر وتجاوز مجرد تشخيصها أمر نادر ومحاصر، لأن ذلك يعني إدانة الطبقة المهيمنة وسلطتها السياسية وسادتها من طواغيت المال الامبرياليين والصهاينة، وما سببوه من تفاوت طبقي لا سابق له، وبطالة وجوع وحرمان، وتدمير للأصول الاقتصادية والحقوق الاجتماعية، والفساد المتجذر والجريمة المنظمة وقتل الحياة السياسية والديمقراطية وحريات المواطنين.
حينما انفجرت الأزمة الرأسمالية العالمية من كمونها أنكرت السلطة المصرية تأثر الاقتصاد المصري بها. بل ادعت كذباً استمرار معدلات النمو الوهمي ثم لم تلبث أن بدأت المجاهرة بتأثر البلاد بالأزمة العالمية مستهدفة أن تكون «مشجباً» للمصائب السابقة على تفجر الأزمة والناجمة عن سياسات التبعية وتوحش الطبقة المسيطرة، وتحميل كل الأعباء للفقراء.
ولذا تبتدع وسائل جديدة للجباية برفع أسعار الكهرباء ومضاعفة أسعار المياه أربعة أضعاف والضرائب غير المباشرة التي بلغت نسبتها الى 75% من إجمالي الضرائب. كل ذلك في مواجهة نضوب الموارد أو تقلصها الشديد (أرباح القطاع العام الذي بيع وجرى نهبه وتخريبه، تقليص العائدات الريعية مثل عائدات قناة السويس والسياحة وتحويلات المصريين العاملين في الخارج)، والإعفاءات الضريبية الواسعة لرأس المال الأجنبي والمحلي.
وبالرغم من انخفاض الأسعار في كل دول العالم تقريباً فإنها تزداد في مصر. وتعتبر أسعار مشتقات البترول نموذجاً فجاً، إذ تم رفعها مع ارتفاع الأسعار عالمياً، ولم يتم خفض أسعارها بعد انخفاض الأسعار عالمياً رغم أن مصر منتجة ومصدرة للبترول. ويتم بوقاحة الحديث عن دعم المواد البترولية للمستهلك المصري، رغم أن الدعم الأكبر هو للبترول والغاز المباع للعدو الصهيوني.
كل ذلك يؤكد أن البرجوازية العميلة الحاكمة مصممة على عدم المساس بمصالحها، وأنها مصممة على تحميل الكادحين عبء الأزمة الناتجة عن نهبهم الوحشي، مضافاً إلى ذلك تبعات الأزمة العالمية المتفجرة بلا نهاية.
إن استمرار سلطة هذه الطبقة يعني ضياع الوطن وهلاك الشعب، إذ يستحيل عدول المماليك الجدد عن سياساتهم. كما يستحيل إصلاح ما لا يمكن إصلاحه كما يدعو أصحاب نظرية «الطبقة الوسطى» الذين يستهدفون الحفاظ على سلطة الرأسمالية واقتسام الكعكة معها.
إن السند الوحيد للطبقة الحاكمة، الذي هو خارج الحدود، والمتمثل في الامبريالية والصهيونية يعيش الآن أضعف حالاته (رغم شراسته)، إلا أنه لم يعد قادراً على الفعل كما كان منذ أمد قريب. أمريكا اللاتينية وأفغانستان ... الخ تقدم لنا نماذج ملموسة.
لم يعد يجدي التشخيص أو التأسي وإبداء العطف أو الأمل في إصلاح مستحيل. فالمهمة هي التغيير الجذري.
الآن لا تتعدد الخيارات، فإما التغيير الجذري الشامل لمصلحة الوطن والكادحين، أي الاشتراكية، وإما الضياع.