أضواء على الحدث الموريتاني والسويدي
نيران «الفوسفور الأبيض» الذي التصق بلحم الأطفال والنساء والرجال من أبناء قطاع غزة، وصور الأطراف المبتورة، والأجساد الممزقة، المهروسة والمعجونة تحت كتل الأسمنت والحجارة المدمرة، نتيجة انهيار آلاف المنازل، ومئات المدارس ودور العبادة، تحت قصف صواريخ وقذائف مدفعية جيش العدو الإحتلالي الإرهابي، أثناء المجزرة الوحشية والأكثر دموية التي عاشها الشعب الفلسطيني على مدى ثلاثة أسابيع سوداء، أعادت جميع هذه المشاهد المروعة، إنعاش الذاكرة الإنسانية بماهية ومضمون هذا الكيان، من خلال ممارساته العدوانية الفاشية، التي تأتي في مقدمة السياسات الاستعمارية القائمة على الهيمنة، مما أدى إلى نهوض عربي وعالمي متصاعد في وجه هذه الوحشية التوسعية. فبعد فنزويلا وبوليفيا توالت تعبيراته في أكثر من دولة.
فما شهدته العاصمة الموريتانية «نواكشوط» في السادس من الشهر الحالي، لم يكن الحدث المفاجىء، لأنه كان الخطوة اللاحقة و«الطبيعية»، للموقف الذي اتخذه رئيس مجلس الدولة الأعلى الجنرال محمد ولد عبد العزيز في القمة العربية التي انعقدت في الدوحة في شهر كانون الثاني الفائت. وبهذه الخطوة تكون قد أزيلت بقعة سوداء من التاريخ السياسي للكيانية السياسية الرسمية الموريتانية، بعد ثماني سنوات وشهرين وستة وعشرين يوماً من التواجد «الشاذ والاستثنائي» لسفارة دولة العدو، وذلك برحيل جميع أفراد «القتلة» طاقم السفارة، بعد أن قامت قوات الأمن بإنزال رمز الفاشية والعنصرية والاحتلال من على ظهر المبنى الذي كانت تشغله عناصر الإجرام والتخريب، وسط زغاريد النساء الموريتانيات، وصيحات الفرح التي هللت بها الجماهير المحتشدة في المكان. بهذه الخطوة تكون القيادة الموريتانية قد انحازت فعلياً لانتمائها القومي، واستجابت لنبض القوى السياسية الشعبية التي خاضت نضالاً جماهيرياً مكثفاً لإسقاط العلاقة الدبلوماسية منذ توقيع «اتفاق واشنطن» بين وزيري خارجية موريتانيا وكيان العدو الإرهابي، تحت رعاية وزيرة الخارجية الاميركية حينها، «مادلين أولبرايت» في 28 تشرين الأول 1999 القاضي بإقامة علاقات دبلوماسية «كاملة ومتكاملة» بين البلدين، وصفتها اولبرايت بأنها (دليل على بداية عهد جديد من السلام بين العرب و«إسرائيل»). الرفض الشعبي للوجود الصهيوني على أرض موريتانيا، لم يتوقف عند حدود البيانات والمظاهرات واحتجاجات النواب داخل البرلمان، بل وجد تعبيراته العنيفة/ المسلحة عندما قام أحد المواطنين بإطلاق رشقات من سلاحه الرشاش على مقر السفارة في مطلع عام 2008. وعلى الرغم من بقاء العلاقة بين موريتانيا والكيان الصهيوني في حدود «العلاقات العامة»، لكن الهدف الاستراتيجي من هذا «الاختراق» استهدف كما يقول الباحث الصهيوني «كينيث باندلر» في الموقع الالكتروني «إسرائيل فوروم» (المدخل الشرقي الهادئ من المحيط الاطلسي الى كل من الجزائر ومالي والسنغال ومنطقة الصحراءالغربية المتنازع عليها بين المغرب والجزائر). ولهذا فإن قطع العلاقات، وإغلاق السفارة وطرد العاملين بها، يُشكل خطوة مهمة في عملية رفض أي شكل للعلاقة مع هذا الكيان الإحتلالي السرطاني، المعادي لأهداف وطموحات الأمة العربية، وتأكيد جديد على سد كل المنافذ التي يسعى قادة العدو للتسلل منها للوطن العربي ودول الجوار.
بعد يومين فقط على الخطوة الموريتانية، عاشت مدينة «مالمو» السويدية حدثاً مهماً، عكس قدرة قوى «اليسار» في هذا البلد، ومدى التزامها النظري والعملي بأفكار وبرامج «مواجهة الامبريالية والصهيونية العدوانية المتوحشة». فقد نظم اليسار السويدي في هذه المدينة الواقعة جنوب البلاد، حركة احتجاج واسعة شارك بها الآلاف من أعضائه، ونشطاء الجاليات العربية والآسيوية، حاولوا خلالها اقتحام ملعب «مالمو» حاملين لافتات كتب عليها «استدر إلى اليسار وحطم اليمين»، و«قاطعوا إسرائيل»، لمنع مباراة سويدية- «إسرائيلية» للتنس. وقد وصف «آندي رام» أحد أعضاء الوفد الرياضي الصهيوني الموقف بأنه «لحظة سيئة... إن ماحصل شبيه بأجواء الحرب». إن حركة القوى السياسية المعادية للصهيونية والفاشية والهيمنة العسكرية في العالم، وجدت في المجازر التي ترتكبها قوات العدو الصهيوني ضد أبناء الشعب الفلسطيني- غزة النموذج المباشر- الدافع الحقيقي لإعادة تنشيط كل أشكال النضال لتعرية الصهيونية وقاعدتها المادية، كما تتجسد في كيان العدو، والعمل بكل الميادين من أجل دعم النضال التحرري الذي يخوضه الشعب الفلسطيني. وهذا مانجد تعبيراته في تطوير أشكال المقاطعة للجامعات والمراكز العلمية «الإسرائيلية»، ورفض «توءمة» المدن، ومقاطعة المنتجات الاقتصادية التي يتم تصنيعها في المستعمرات المقامة على أرض الضفة الفلسطينية، وبدء الحملات الواسعة لتقديم مجرمي الحرب للمحاكم الأوروبية في اسبانيا وبلجيكا وبريطانيا.
وفي هذا المجال، تنشط حالياً أشكال المقاطعة للبضائع «الإسرائيلية» داخل أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة، فحملة «لجنة المقاومة الشعبية» في مدينة نابلس، وفي داخل خمسين قرية وبلدة فلسطينية لمقاطعة منتجات معامل العدو، ستبدأ بالتفعيل خلال الأيام القليلة القادمة، مما يشير لأهمية استخدام سلاح المقاطعة الإقتصادية والثقافية والأكاديمية والرياضية، بجانب كل وسائل النضال ضد العدو المحتل.
قبل بضعة أيام كتب «إيتان هابر» في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية، مقالاً عالج فيه تطورات العلاقة بين واشنطن وحكومة العدو. كما رصد في مقالته تلك، أثر التفاعلات «السلبية من وجهة نظره!» داخل الساحة الأوروبية نحو كيان العدو. يقول هابر: «على هذه الخلفية تزداد حدة ظاهرة سلب الشرعية عن إسرائيل في بلدان أوروبا. لا يزال ذلك في بعضها لا كلها والحمد لله، لكن لا يمكن ألا نلحظ ظاهرة تزداد سوءاً عند الحكومات وفي الجامعات وفي الإعلان. إن التعبيرات المعلنة، وأحداث الشغب والتظاهرات هي اهتزازات جهاز قياس الزلازل؛ ولا يزال ذلك بقوة لا تجعلنا مطرودين لكننا في الطريق الى هناك».
إن محاصرة كيان العدو، وعزله، وفضح وظيفته ودوره، القائمين على الاحتلال والتوسع العسكري العدواني، يعتبر مهمة وطنية راهنة تتطلب من كل القوى السياسية العربية- الفلسطينية في مقدمتها- والأممية، العمل على تحقيق المزيد من التصدعات في بنية هذا الكيان.