أزمة «وول ستريت» والشرائح القلقة اجتماعياً..

تسربت الأسبوع الماضي في نشرات أخبار محطات البث الأمريكية والدولية، بما فيها العربية، تغطيات «لافتة» لحادثين «جنائيين» شهدتهما الولايات المتحدة الأمريكية، دون أن تُلصق بهما صفة «الهجوم الإرهابي الخارجي أو المرتبط بالخارج»، بما يوحي بأن الأمر من وجهة نظر عارضيه، ضمناً، يتجاوز البعد الجنائي (الإرهابي) الصرف، القائم والوارد والاعتيادي في مختلف الجرائم في مختلف بلدان العالم، ليضيف إليه الأبعاد المرتبطة بالأزمة البنيوية الرأسمالية، وفي عقر دار الإمبريالية الأمريكية. ويعني هذا مجدداً أن تسارع وتائر هذه الجرائم، التي انتقلت في الأسبوع ذاته وبالتغطية ذاتها إلى شتوتغارت الألمانية، إنما يعني انتقال مفاعيل وتداعيات ما توصف بأنها «أزمة مالية» إلى صفوف المجتمع، تأكيداً على أنها تشكل في نهاية المطاف، وبدايته، «أزمة نظام».

السلطات في ولاية ألاباما الأمريكية قالت إن مسلحاً قتل خلال أربع عمليات إطلاق نار منفصلة على الأقل تسعة أشخاص في بلدتين جنوبي الولاية قبل أن ينتحر. وجاء ذلك بعد أيام فقط من مقتل قس أمريكي خلال أحد القداديس في ولاية ألينوي، مع إعلان الشرطة إن القاتل، الذي لم تكشف عن اسمه أو دوافعه، يبلغ من العمر 27 عاماً فقط. وتلا ذلك الإعلان عن مقتل خمسة عشر شخصاً برصاص مسلحين في ألمانيا..
في الفترة ذاتها جاءت بيانات وزارة العمل الأميركية التي أظهرت أن 4.4 ملايين أمريكي فقدوا وظائفهم منذ بداية الكساد الاقتصادي، من بينهم 651 ألف مواطن التحقوا بطوابير العاطلين خلال شباط الماضي وحده، مما رفع نسبة البطالة داخل الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى لها منذ 25 عاماً، وذلك دون احتساب تسعة آلاف مدرس، دفعة واحدة، في مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا تم إرسال مذكرات تحذيرية إليهم بالتسريح والاستغناء عن خدماتهم بسبب العجز الذي تعاني منه موازنة المدارس في الولاية.
ويجري كل ذلك دون أن يسأل أحد: وماذا سيحل بهؤلاء وعوائلهم في ظل أزمة جديدة تداهمهم في السكن والعقارات والقروض؟ وبأية وسائل سوف يتدبرون أمورهم، التي يفاقمها أصلاً السحب المتلاحق لامتيازات الضمان الاجتماعي ونمط «الاستهلاك المفرط»، لصالح تمويل «الحرب على الإرهاب» وزيادة الإنفاق العسكري والأمني؟
وهل تنفع الأمريكيين مطالبة رئيسهم أوباما إياهم «بالتحلي بالصبر وتحمل المسؤولية إزاء حالة الركود الاقتصادي والارتفاع القياسي في معدلات البطالة»، وقوله «إن ذلك يثبت الضرورة الملحة لبرنامج الإدارة لدعم الاقتصاد»؟ وبالنسبة للمواطن الأمريكي العادي متى ستأخذ هذه الدعوات وغيرها من رئيس البنك الاحتياطي الفدرالي «لإصلاح النظام المالي وفرض رقابة على الشركات الكبرى» طريقها إلى التطبيق بما يقلب النتائج القائمة حالياً؟
وبينما تفيد التقديرات بأن 30 ألف شخص يقتلون سنوياً بالرصاص في الولايات المتحدة، أكبر دولة في العالم من حيث عدد حائزي السلاح الشخصي، عزا مسؤولو الأمن الأمريكيون الزيادة المستمرة في عمليات القتل والسرقة إلى ارتفاع عدد الأحداث بالنسبة لمجمل عدد السكان، وتنامي أعداد الخارجين من السجون، وظهور العصابات الخطرة في المناطق النائية. غير أن منتقدي إدارة بوش حتى الأمس القريب كانوا يعزون ذلك إلى خفض المساعدات المالية المركزية، بما فيها مليارات الدولارات التي ذهبت لما يسمى «برامج تعزيز القانون» بوزارة العدل منذ 2002.
إن ما يثير قلق الأميركيين حالياً، وعبر تصريحاتهم المعلنة، في ظل الحديث عن احتمال انهيار «وول ستريت» هو تكرار أحداث العنف داخل المدارس والجامعات، مع ارتفاع ملحوظ في مستوى العنف والجريمة لدى الصبية والمراهقين، وانتقاله الطبيعي لصفوف جماعات الملونين وبقية الأقليات العرقية في المجتمع الأمريكي، أي مجمل الشرائح المهددة والقلقة اجتماعياً في ظل نظام سياسي قائم على المحاصصة التمثيلية للأغنياء بالتناوب عبر ثنائية «جمهوري-ديمقراطي»، فما بالك مع انتقال ذلك للتهديد بمصادر العيش وأساسياته؟
ويعتقد المراقبون أن معدلات الجريمة في الولايات المتحدة مرشحة للارتفاع في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية الأمريكية ورمي المزيد من ملايين العاملين (جنرال موتورز بملايينها مثالاً) إلى قارعة البطالة لينضموا إلى جيش العاطلين عن العمل. وهذا التقييم يقدم، من ناحية، مؤشرات جديدة ونوعية، نحو تفكك بنية الدولة والمجتمع الأمريكيين (وهو ما تحدثنا به منذ أكثر من أربع سنوات، وتتحدث عنه دراسة روسية صدرت مؤخراً بقلم مدير المدرسة الدبلوماسية «إيغور فنرين» متوقعاً انهيار الولايات المتحدة حتى عام 2011 وتفككها إلى ست دول)، مثلما يقدم من ناحية ثانية، نفخاً في المحاولات الأمريكية للهروب من الاستحقاقات الكارثية للأزمة داخلياً عبر تصعيد وتسريع تصديرها كالعادة للخارج (وهو ما ذهب إليه، تلميحاً، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي «دومينيك شتراوس كان» الذي توقع أن يهبط مؤشر النمو الاقتصادي العالمي خلال هذا العام تحت الصفر، لأول مرة منذ 60 عاماً، ليتسبب الركود الحالي بانتشار الفقر وانعدام الاستقرار والحروب). ولكن الولايات المتحدة في افتعالها لمزيد من الحروب ستجد نفسها كمن هرب من «تحت الدلف لتحت المزراب»، مع استحالة تحقيق انتشارها العسكري إلى ما لانهاية، ومواجهة مشروعها لمقاومات متعددة المصادر، تدفعها لتغيير المقاربة والتحالفات، لتبقى أسيرة هذه التناقضات التي يدفع تناحرها بالولايات المتحدة كنظام رأسمالي- إمبريالي نحو الانهيار.
إن ما تشهده حالياً الولايات المتحدة، وغيرها من دول المركز الإمبريالي، يؤكد مرة أخرى ارتباط «الأمن الاقتصادي- الاجتماعي» بـ«الأمن الوطني»، ومن قال إن «دول الأطراف» فيما وراء البحار الأمريكية هي بعيدة عن ذلك، بما يعفيها عن أخذ العبر؟