من نكبة 1948 إلى «حل الدولتين»... «بردنا من غطانا»!

منذ مطلع القرن العشرين برز في منطقتنا مشروعان؛ المشروع الصهيوني ونقيضه مشروع حركة التحرر العربي. 

ومنذ ذلك الوقت كان واضحاً أن المشروعين متضادان ومتصادمان حتى النهاية، وأن نجاح أحدهما بشكل كامل يعني تلاشي الآخر وزواله. وإذا كان المشروعان قد برزا في مرحلة السيطرة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة على الوطن العربي، فإن أغلب القيادات العربية الرسمية التي وصلت إلى سدة الحكم بتخطيط وبموافقة لندن وباريس وواشنطن ما بين 1919- 1948، ساهمت إلى حد كبير في الانتصارات المتدرجة للحركة الصهيونية على حركة التحرر الوطني العربية في بواكير انطلاقتها، ولم يغير من هذه الحقيقة وجود نخب عربية وطنية مثقفة كانت تدرك مخاطر التحضير الأوروبي- الاستعماري للاستيلاء على المنطقة العربية في إطار «المسألة الشرقية»، والاستيلاء على تركة «الرجل المريض».

لقد قاومت الجماهير وقياداتها الميدانية في فلسطين وغيرها من البلدان العربية ضد المشروع الاستيطاني الصهيوني منذ بداياته بالعمل السياسي والثقافي وصولاً إلى المقاومة المسلحة وحققت إنجازات هائلة بالقياس لميزان القوى مع قوى التحالف الصهيوني- الإمبريالي- الرجعي العربي، ولهذا لم تستطع حسم التناقض مع المشروع الصهيوني لمصلحتها. ومع كل ذلك أدركت قوى التحرر الوطني وخصوصاً في أعقاب التقاسم الوظيفي بين الإمبرياليتين البريطانية والفرنسية للمنطقة وفق مؤامرة «سايكس- بيكو»، أن لا خيار أمامها إلا المقاومة والمواجهة في سورية ولبنان وفلسطين والعراق.

... اللافت هنا أن قوى التحرر الوطني العربية في مرحلتي ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية لم تكن تواجه فقط قوى الاحتلال الأجنبي وعصابات الحركة الصهيونية التي كانت تعمل بحمايتها وتحت إشرافها، بل كانت تواجه أيضاً القيادات الرسمية العربية الرجعية التي جيء بها لتنفذ دوراً وظيفياً في إخماد أية مقاومة عربية ضد الهيمنة الإمبريالية- الصهيونية على المنطقة. وبهذه الوسائل تمكن التحالف الإمبريالي- الرجعي العربي من إجهاض الثورات في فلسطين (1929، 1936، 1939)، وفي العراق، وكذلك في إجهاض المقاومة المشتركة الفلسطينية والعربية بعد الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني في فلسطين منتصف أيار 1948، عبر إدخال «الجيوش العربية» إلى فلسطين بقيادة الأمير عبد الله لا لنجدة الثوار هناك بل لانتزاع المواقع التي حررتها المقاومة وتسليمها لاحقاً إلى عصابات الهاغاناه الصهيونية بقيادة بن غوريون. وهذا ما جعل المناضل الدكتور عبد السلام العجيلي، والذي شارك آنذاك في القتال، أن يختصر ما حدث بالقول: «إن بردنا من غطانا» أي من النظام الرسمي العربي الرجعي والذي كان على رأسه أمثال الملك فاروق والأمير عبد الله والملك عبد العزيز آل سعود..الخ.

وبالقياس على حيثيات النكبة وما تلاها من نكبات وحتى اليوم نلاحظ وجود نهجين متضادين حول الموقف من قيام الكيان الصهيوني الإرهابي على أرض فلسطين العربية، نهج يرتكز في كل تحركه وسياسته على المساومة والتفريط بالحقوق وخطابه السياسي لا يتعدى «نظرية التنافس» مع العدو الصهيوني في استمالة الدول الإمبريالية الحاضنة للمشروع الصهيوني انطلاقاً من مقولة «إن مصلحة أمريكا ودول الغرب مع العرب فلماذا ينحازون إلى إسرائيل ضدهم؟»!!

أما النهج الآخر النقيض فهو نهج المقاومة والمواجهة، لأن أصحاب هذا النهج- على تبعثر قواهم- أدركوا من حيث الأساس أن المشروع الصهيوني الاستيطاني له ثلاثة أبعاد إستراتيجية مفتوحة:

• بعد فلسطيني ويعني تهويد فلسطين عبر إغراقها بالمهاجرين اليهود.

• بعد عربي، أي إحكام السيطرة الإمبريالية على المنطقة.

• البعد الدولي ويتمثل بشكل العلاقة بين الصهيونية العالمية وبين الاستعمار الدولي، أي الدول الحاضنة للمشروع الصهيوني.

... ومن هنا فإنه منذ قيام الكيان الصهيوني في العام 1948 تحول إلى «ثكنة» استيطانية تقوم على ثلاث دعائم أمنية- إستراتيجية، هي:

ـ تفوق عسكري وقاعدة آمنة للآلة العسكرية (تهويد فلسطين).

ـ دور وظيفي «للثكنة» يتمثل في الهيمنة على محيطها بالعدوان والتحكم بالمسارات السياسية لعواصم دول المنطقة رغم كل ما يحتم ذلك من بروز أبعاد إقليمية ضدها.

ـ العلاقة المتميزة مع المركز الإمبريالي الحاضن «للثكنة» مع كل ما يستتبع ذلك من صيغ التعاون الاستراتيجي العسكري والاقتصادي والسياسي معها.

...وبالرغم من كل النكسات التي أصابت الشعب الفلسطيني وقوى التحرر الوطني العربية، ورغم كل الاتفاقات المذلة التي وقعها النظام الرسمي العربي- بما فيها السلطة الموهومة في رام الله- مع الكيان الصهيوني، فإن إدامة الاشتباك مع هذا العدو سواء بالمقاومة المباشرة أو على مستوى الحس الشعبي في الشارع العربي لجهة مقاومة التطبيع، جعل «الثكنة» الاستيطانية الصهيونية في حالة حصار وفي حالة انكفاء اضطراري عن بعض عناصر المشروع الصهيوني بطبيعته الأصلية.

وإذا كان بعض المهزومين يتجرأ على الانتقاص من دور المقاومة الفلسطينية واللبنانية في انتزاع زمام المبادرة وتغيير قواعد اللعبة على المستوى الاستراتيجي، فإننا نؤكد على خطورة وعبثية الاستمرار في اللغو عند مشاريع التسوية مع الكيان الصهيوني «الثكنة»، لأن «الثكنة» الاستيطانية هي دائماً عدوانية وغير مهيأة للتعايش السلمي لا مع أصحاب الأرض الأصليين ولا مع شعوب المنطقة، ومن هنا لا ينفع معها إلا خيار المقاومة وإدامة الاشتباك وتصعيده معها حتى تفكيكها كلياً وإعادة الحقوق إلى أصحابها.

 

آخر تعديل على الأربعاء, 17 آب/أغسطس 2016 13:57