بصدد «حركة اليسار المصري المقاوم»
عدد ممن التقيتهم سألوني: لماذا أطلقنا على حركتنا اسم «حركة اليسار المصري المقاوم»؟
يُبنى السؤال أساساً على تصور بأن المقاومة تعتبر «مرحلة» قائمة بذاتها، تتلوها بعد تحقيق الانتصار مرحلة أخرى تماماً هي مرحلة «البناء».
ورغم أن التساؤل وعلته قد يبدوان منطقيين غير أنهما ينطويان على قدر من عدم الدقة. إذ أنه لا توجد أسوار فاصلة بشكل مطلق بين المراحل. ذلك أنه حتى بالنسبة لمراحل التطور الإجتماعي (التشكيلات الاجتماعية- الاقتصادية) فإن قدراً من التداخل بينها يظل قائماً ولفترات قد تطول.
وعلى سبيل المثال فإن عناصر هامة من مكونات البناء الفوقي في المجتمع القديم قد تظل كامنة في أحشاء المجتمع الجديد. ومن ناحية أخرى فإن طبيعة الحالة الصراعية الهائلة في ظروف النضال من أجل إنهاء آخر التشكيلات الاجتماعية القائمة على الاستغلال (التشكيلة الرأسمالية) والانتقال إلى الاشتراكية تتسم بتعقيدات شديدة، وتعتري مسيراتها صعوبات كبيرة والتواءات وانكسارات قد تصل إلى نجاح القوى المضادة في الانقلاب على الاشتراكية. وهو ما حدث فعلاً بالنسبة للاتحاد السوفييتي.
قصور المقاومة: كارثة
لقد كانت هذه الأمور ملتبسة لدرجة الوقوع في أخطاء نظرية فادحة. إذ كنا نقرأ في كتب الفلسفة الماركسية أن المجتمعات تتطور تطوراً صاعداً (بشكل حلزوني)، أي تتخلله التواءات وتراجعات عابرة لا تلغي الاتجاه الصاعد. وهذا صحيح. في الكتب نفسها كنا نقرأ أنه لا عودة للوراء في الاتحاد السوفييتي. لكن العودة حدثت.
في مصر حيث أكثر المسيرات تعرجاً في الحركة الشيوعية، تم إهدار طاقات وتضحيات هائلة بذلها آلاف من عمال وفلاحي ومثقفي وطلاب مصر. وتمت تصفيات عديدة للحركة على طول القرن العشرين (ثلاث مرات). وهذه القضية لابد أن تكون موضع دراسة معمقة.
ونعتقد أنه في كلا الحالين (الإتحاد السوفييتي ومصر) تبلور الأمر إلى حد بعيد في ضعف وعدم كفاية المقاومة الفعالة لمسببات وقوى الردة الخفية الكامنة أو الظاهرة.
في اللحظات الحاسمة (مارس 1991) حينما تم الإستفتاء العام في الإتحاد السوفييتي، والذي أكد تمسك شعوبه بالإتحاد وبالاشتراكية، لم يكن الوقت كافياً لتنظيم مقاومة فعالة ضد قوى الانقلاب الذي تم في أغسطس من العام نفسه.
ويعطينا ذلك دلالة قاطعة بأن المنجزات الهائلة في البناء إضافة إلى القوى العسكرية الجبارة لا تُغني عن حفز روح المقاومة وتفعيلها ضد القوى المضادة التي بدأت في التغلغل في كل مؤسسات المجتمع مع صعود خروشوف إلى قمة السلطة. إذ سادت حالة من الاسترخاء، وتم إغفال وجود عدو خارجي وعدو داخلي يزداد ضراوة في صراع المرحلة الأخيرة أي مرحلة الاقتراب من دفن آخر تشكيلة إجتماعية اقتصادية قائمة على الاستغلال والقهر. وبأن للنضال مجالات عدة: اقتصادي، سياسي، نظري. إضافة إلى أن تطورات الواقع الصراعي تنتج مجالات جديدة مثل الإعلام، والاختراق بالأموال، اختراق القوى العابرة للقوميات (الصهاينة)...إلخ، وكلها أمور تؤكد توحد مهام البناء والمقاومة.
مصر والثمن الفادح لقصور المقاومة
في مصر كان الثمن فادحاً.. فقد ضاع نضال وتضحيات عشرات الآلاف من الشيوعيين على مدى قرن كامل، ضمنه ما يقارب العقود الأربعة الأخيرة هي عمر الحركة الشيوعية المصرية الثالثة التي بدأت بشائرها نهاية ستينيات القرن الماضي، وبدأت في التبلور أوائل السبعينيات، وبلغت درجة معقولة من النمو التنظيمي والنفوذ الجماهيري والسياسي رغم ظروف القمع. غير أن القمع وحده لم يكن كافياً لإيصال الأمور إلى حد التصفية.
إن الحالة المصرية، خاصة بالنسبة للحزب الشيوعي المصري، انطوت على أسباب الانحطاط والتراجع والتلاشي. وكان أهم هذه الأسباب هو تسريب كوادر تحمل أفكار وخطط الاختراق الصهيوني من الحركة الثانية (حركة الأربعينيات والخمسينيات)، التي أسماها أحد أبرز قادتها محمد سيد أحمد المرحلة اليهودية في الحركة الشيوعية المصرية. رغم أنها (أي الحركة الثانية) ضمت الآلاف من المناضلين الشرفاء (أوردت الوثيقة أسماء بعض رموزهم) حيث استشرى الاختراق في الحزب وتمكنت عناصره من القبض على مفاصل هامة، ووسعت في سرية شديدة دائرة المنخرطين في مواقف وخطط المشروع الصهيوني من الأجيال الجديدة، وضمنهم المتمولون إمبريالياً وصهيونياً لتنفيذ الأجندات المعادية تحت غطاء الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، وأساساً تمرير نظرية «دولتين لشعبين» و«التآخي المصري والعربي- الصهيوني»...إلخ، وإقصاء المئات من الكوادر الشابة المناضلة وإفقاد الحزب لاستقلاليته وتذويبه في كيان سياسي آخر تم سحبه إلى مواقع اليمين والإيدلوجية الإصلاحية البرجوازية.
بصدد هذا الأمر، وفي ظروف تعقيدات العمل السري واستهلاك جهد الكادر في مهام العمل اليومي والعداء لتثقيف الكوادر العمالية بوجه خاص، وشراء الذمم، وافتعال المعارك الشخصية وعلى المواقع التنظيمية لطمس وإزاحة الصراع الفكري والسياسي، والأهم ممارسة الابتزاز بإلقاء تهم التطرف اليساري أو القومي وتشوية المنظمات الشيوعية الأخرى وتلويث سمعة كوادرها لتقويضها...إلخ، وصولاً في النهاية إلى الاتصال العلني بالصهاينة الإسرائيليين (عام 1999).
في ظل استفحال التردي لم تكن المقاومة كافية أو منظمة لإنقاذ الحزب، كان الوقت قد فات للأسف.
المسيرة مستمرة بشكل صحيح
لقد اكتسب الشيوعيون خبرة كبيرة في كيفية هزيمة الرأسمالية وإقصائها، واكتسبوا أيضاً تحت ظروف شديدة الصعوبة والتعقيد خبرة هائلة في البناء، ولكنهم لم يكتسبوا خبرات كافية- سوى في حالات محدودة مثل كوريا الديمقراطية وكوبا- لاكتشاف الانحرافات والاختراقات والعوامل الكامنة الخطيرة داخل الحزب والدولة في وقت مبكر وتنظيم مقاومة فعالة لها.
لذلك كان اعتقادنا الراسخ (بعد مرارة التجربة) حين شرعنا في بناء «حركة اليسار المصري المقاوم» أن البدء من جديد لابد وأن يكون على أساس أن المقاومة هي ركن ركين في الفكر والموقف والحركة والممارسة، على مستوى الحزب والوطن والإقليم والعالم كله، قبل الانتصار وبعده، طالما بقي حصن واحد للعدو «الصهيو- أمريكي» في الداخل أو الخارج، وحتى تمام الانتصار على العدو ودفن الرأسمالية والصهيونية.