الارتباك الإسرائيلي والمزاودون الملكيون..

تستشري في شرق المتوسط حالياً موجة مكثفة من حديث بدأ منذ أشهر عدة عن «تهدئة» تغطي جميع بؤر الصراع في المنطقة بما يشمل فلسطين المحتلة ولبنان وسورية والعراق. ويبتغي كل ذلك تخديم هدف غير معلن هو تعميم مفاعيل التهدئة ومحاولة تثبيت دعائم لها على طول الخط من أجل «إراحة» إسرائيل وتفريغها

 من ضمن أطراف مستفيدة أخرى، للمهام والأدوار الأكبر التي باتت تريد أداءها إقليمياً ودولياً ضمن لوحة الصراع العالمي، من المتوسط إلى القوقاز وصولاً إلى جنوب آسيا، محور القفقاس - باكستان. ولكن هذه الأدوار الدولية لإسرائيل ضمن هذه المرحلة المفصلية والحرجة من تاريخ الرأسمالية يعتريها في المقابل بحث إسرائيلي حقيقي في مستقبل «إسرائيل» واستمرار وجودها ذاته، ضمن تفاعل الأزمة الرأسمالية المتفاقمة، التي لا تُعرف ولم تُحسم نتائجها بعد.

من مصر يأتي الحديث عن اتفاق (حكومة وحدة) بين حماس وفتح، وسط إشادة غير مسبوقة من كوندوليزا رايس بـ«حماس» بسبب تمكنها من كبح عمليات المقاومة/«العنف» في الفترة الماضية، مقابل إطلاق إسرائيل لعمليات تطهير عرقي جديدة في عكا، وفرض حصار كامل على كل الأراضي المحتلة، وسط صمت مريب من سلطة عباس، وسحب حماس لعمليات المقاومة المباشرة من أرض الواقع حتى الآن. وكل ذلك وسط «اجتهادات» «ثقافية-سياسية» عربية تعيد النفخ في فكرة الدولة الواحدة ذات القوميتين، مقابل اهتمام إسرائيلي لافت بـ«مبادرة السلام السعودية» (لاحظ السعودية، ليس العربية). 

ومن لبنان يستمر الحديث عن المصالحات السياسية بالتوازي مع التهليل لتدشين العلاقات الدبلوماسية مع الجارة سورية، ولكن دائماً مع استمرار محاولات «حماة» قوى 14 آذار، تفجير الوضع فيه سياسياً وأمنياً.

ومع سورية يستمر مسلسل «المشاغلة» لأطول وقت ممكن على نحو مزدوج، دبلوماسياً من خلال محور ساركوزي، الاتحاد الأوربي، قطر، تركيا، مع تخفيض واشنطن نسبياً لحدة هجومها على دمشق ووتائره، بموازاة السعي المحموم لاستنزاف إمكانيات الداخل السوري في احتواء العمليات التخريبية -الإرهابية، اغتيالاً وتفجيراً، واحتواء آثار ربط سورية باتفاقيات وترتيبات ووعود وأنماط اقتصادية لا تقل خطورة عن ذلك، ودائماً على خلفية ترويج إسرائيلي غربي حول الاهتمام بالتفاوض مع سورية، وحتى تضمين هذا الموضوع شرطاً في ترتيب وتقاسم المواقع في الحكومة الإسرائيلية المرتقبة (باراك).

في العراق، وبخصوص الأصداء العالمية لتفاعلات التطورات فيه، يستمر الصخب الإعلامي حول «التحفظ» العراقي الرسمي على مسودة الاتفاق الأمني مع الاحتلال الأمريكي، وهو صخب سيخمد مع إدخال تعديلات وتقديم توضيحات ما، لتوافق عليه في نهاية المطاف الحكومة المعينة أمريكياً، والموكل إليها أساساً تمرير هذا الاتفاق، «باسم الشعب العراقي» بذريعة أنها «حكومة منتخبة ديمقراطياً»، فيصبح أي عمل مقاوم أو حتى رافض (ولو بقلبه كأضعف الإيمان) لقوات الاحتلال، هو عمل خارج عن القانون، ويمس هيبة الحكومة العراقية، ليبقى على العراقيين في النهاية التصدي لمهمة كبرى تتمثل في محاربة شرعنة الاحتلال ومقارعة تجليات وممارسات استعمار أمريكي طويل الأمد لبلاد الرافدين تحت يافطة الاتفاقات الموقعة رسمياً، ووسط المحاولات المستمرة لرفع الصراع، العرقي والديني والطائفي بين مكونات الشعب العراقي ولهاث وجوهها وقادتها وراء فتات الثروة المنهوبة، إلى مستوى جديد.

وبينما تشير كل هذه المعطيات إلى محاولات جادة، متعددة المصادر، لصرف الأنظار عن «إسرائيل» والإفساح في المجال أمامها للعب دور أكبر في مساحات جغرافية جديدة تتجاوز منطقة صراعها التقليدي، وتركيزها حالياً على محاولة النجاة بنفسها من عاصفة تجليات وانعكاسات المرحلة الحالية من الأزمة الرأسمالية، فإن هذه العاصفة ذاتها وحقيقة ارتباط «إسرائيل» عضوياً بالرأسمال العالمي وكونه قوة ضاربة تقليدياً في المنطقة لصالح المراكز الامبريالية والاستعمارية يدفع سياسيي الكيان واقتصادييه وباحثيه وإعلامييه لأن يطرحوا على بساط البحث الجدي مستقبل «إسرائيل» نفسه، مع الأخذ بالحسبان نتائج حرب تموز 2006 وبالتالي العواقب المحتملة في كل الأحوال لأية مغامرة عسكرية جديدة.

وللمفارقة فإن قادة العرب كالعادة مستمتعون ببقائهم «خارج قوس»، ويصل الأمر بثماني دول منهم (في مقدمتهم مصر) لـ«مقاطعة» حتى الاجتماع السنوي، الذي بات برتوكولياً ومتدهوراً في تحقيق غاياته منذ زمن، لضباط «مقاطعة» إسرائيل ذاتها، والذي انعقد في دمشق مؤخراً، وكأنهم «ملكيون أكثر من الملك» ومصممون على عدم رؤية «إسرائيل» إلا ضمن زوايا الرؤية السابقة، بعبعاً و«حليفاً»، بينما تدفع الأزمة الراهنة والاتجاهات المحتملة لها حتى عتاة النظام الليبرالي الجديد للبحث في تحالفات وجودية جديدة.