جولة «ميتشل» واستعراض البوارج الحربية
مع وصول المبعوث الأمريكي الخاص، المكلف بملف «السلام» في الشرق الأوسط جورج ميتشل للمنطقة، تكون السياسة الأمريكية الجديدة قد دخلت إلى قاعة امتحانها السريع، من باب الاستطلاع، والدراسة الميدانية، بهدف بعث رسائل مباشرة لجميع الأطراف، تتضمن شروع الإدارة الجديدة بالعمل على التعامل السريع مع الملف الساخن «الصراع العربي/الصهيوني» نتيجة حرارة نيران الصواريخ وجمر الفسفور الأبيض، والأهم بدماء أبناء غزة. ويبدو أن الإندفاع السريع نحو المنطقة ينطلق من رؤية أوباما الجديدة، التي تضمنتها كلمته في الخطاب الرئاسي الأول، حول ضرورة الانفتاح على المنطقة والعالم من خلال التفاوض. ومن هنا يمكن قراءة الجولة الأولى للمبعوث الرئاسي، على كونها استطلاعية واستكشافية، تأتي في مرحلة غاية في التعقيد، ولكنها مع كل ذلك واضحة المعالم.
جاء اختيار جورج ميتشل لمتابعة هذا الملف الشائك والمعقد بعد دراسة مطولة لقدرات هذا السناتور السابق، والمفاوض الاستثنائي- كما تصفه بعض الأقلام- البارع، الذي أنجز وبجدارة ملف الصراع في ايرلندا الشمالية. كما أن خبرته السابقة في متابعة ملف قضايا الصراع العربي الفلسطيني/ الصهيوني أثناء ولاية الرئيس بيل كلينتون، وقيامه بزيارة الأراضي المحتلة، ومعاينته للوقائع على الأرض بعد عدة أشهر من بداية انتفاضة الأقصى عام 2000، وتقديمه التقرير/الوثيقة التي عرض فيها أفكاره واستنتاجاته حول مقدمات ومسار الإنتفاضة، ورؤيته لقيام الدولتين كحل للصراع. كما ضمنه نقده الواضح لبناء وتوسيع المستعمرات. وهذا ما دفع بـ«داني دايان» أحد أعضاء مجلس «يشع» الخاص بشؤون المستعمرات «المستوطنات» للقول (تعيين جورج ميتشل مبعوثاً أمريكياً إلى الشرق الأوسط مقلق، ولا سيما على خلفية حقيقة أن ميتشل كان أول من ضَمّن سياسة تجميد الاستيطان أيضاً، موضوع النمو الطبيعي في المستوطنات، الأمر الذي لا يعقل. فهل كل ولادة في المناطق تحتاج إلى إذن من الإدارة في واشنطن؟ ميتشل أيضاً أجرى مقايسة غير مقبولة على العقل وغير أخلاقية بين واجب الفلسطينيين مكافحة الارهاب وبين تجميد البناء في المستوطنات).
لكن الوجه الآخر/الحقيقي لميتشل، تعرفه كل المحافل الصهيونية، ودوائر صناعة القرار الأمريكية، كما كان يظهر بوضوح في كل جلسات مجلس الشيوخ التي كانت تناقش قضايا الصراع العربي/الصهيوني. فالسناتور السابق، والمبعوث الجديد للمنطقة، هو أحد أبرز أصدقاء حكومات العدو كما تزخر بذلك خطاباته في مؤتمرات ونشاطات لجنة «ايباك» الأمريكية/الصهيونية. وهو المدافع الشرس عن «أمن وسلامة الكيان»، والذي يصوت دائماً ضد أية صفقات سلاح تطلبها الدول العربية- رغم معرفته الدقيقة بأن هذه الصفقات، ستنعش الإقتصاد الأمريكي، ولن تشكل خطراً على العدو، لأنها ستتكدس بالمخازن. وقد عبّر بعض كتّاب صحيفة «معاريف» الصهيونية الصادرة قبل بضعة أيام، بمقالة لهم عن «مخاوفهم» من الدور الجديد لميتشل، حملت عنواناً مضللاً «ميتشل يصل للضغط» للإيحاء بأن حكومة العدو ستتعرض للظلم على يد القادمين الجدد للبيت الأبيض! ويرى هؤلاء الكتاب بأن إرسال ميتشل لفلسطين المحتلة والمنطقة، يؤكد تصريحات الرئيس الجديد الصارمة بعد انتخابه بأن في نيته «حث السلام بشكل نشط وبعزم»، انطلاقاً من سياسة «دبلوماسية نشطة» تستمد فاعليتها وحيويتها من اهتمامات الرئيس الجديد «الشخصية» بقضية الشرق الأوسط بحسب تصريحاته مؤخراً، مشدداً بالوقت ذاته على أن التوصل لحلول سريعة لقضية الشرق الأوسط، مسألة ضرورية وأساسية لتحقيق «المصالح القومية» للولايات المتحدة. ومن الواضح في سياسات الحزبين المتداولين للسلطة في مركز الإمبريالية العالمية المتوحشة «واشنطن» أن كيان العدو في فلسطين المحتلة، كان وسيبقى «المصلحة القومية» الأساسية لسياسة الهيمنة والتملك التي تنتهجها الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية.
لايجد المتابع للسياسة الأمريكية في الوطن العربي، أية تناقضات بين هذه السياسة وتوجهات وممارسات دولة العدو الصهيوني، بل يرى في كل موقف تطابقاً بين السياستين، وتماهياً يصل لحد التوحد في العديد من القرارات السياسية المفصلية، باستثناء بعض «التعارضات» في مناسبات نادرة! وانطلاقاً من تلك الحقيقة، بادرت الإدارة الجديدة للبيت الأبيض بربط الجولة الأولى لميتشل، بمطالب حكومة العدو بعد وقف إطلاق النار على غزة. اذ أكدت هذه الإدارة على أنه (سيبحث في إقامة نظام لمكافحة التهريب يمنع حركات المقاومة من إعادة التسلح، الى جانب العمل لتثبيت وقف إطلاق النار في غزة وتحريك عملية السلام، ودراسة أساليب تلبية الحاجات الإنسانية الفورية لفلسطينيي قطاع غزة بفعالية، وأعمال إعادة الإعمار). وتأتي هذه الزيارة الاستطلاعية في مرحلة «مابعد غزة» التي فرضت على أرض الواقع حقائق جديدة، أهمها الوجود المادي والمعنوي لقوى المقاومة، التي لايستطيع أحد أن يقفز عن دورها الراهن والمستقبلي في رسم واقع المنطقة. كما أن واحدة من هذه الحقائق، تبرز في انكشاف وتعرية النظام العربي الرسمي الذي اصطفت العديد من حكوماته في الموقع المعادي للمقاومة، وبجانب قوى العدوان الوحشي الدموي. إضافة إلى انكفاء قدرة هذا الكيان، المدجج بالسلاح الأمريكي من فرض شروطه وأهدافه، مما انعكس كل ذلك الفشل على الوضع الداخلي لهذا التجمع الاستعماري. ومن هنا يمكننا النظر لهذه الزيارة في «الوقت الميت» إقليمياً. فالكيان الاحتلالي ينتظر الانتخابات بعد اسبوعين تقريباً. كما أن التفاعلات العربية والإقليمية ستلقي بظلالها على وظيفة وخطط المبعوث الأمريكي. فالنظام العربي الرسمي الذي يمر بأزمة متجددة «وطنية وبنيوية وأخلاقية» سيكون أمام استحقاق مؤتمر القمة الدوري القادم في آذار، بعد مروره بالمنعطفات الحادة «مؤتمر الدوحة، والكويت» التي ارتبطت بمقدمات وتطورات ونتائج مجزرة غزة. كما أن القوى السياسية الإيرانية تستعد لخوض الانتخابات البرلمانية في نيسان القادم. بالإضافة لما فرضته تركيا على خارطة المنطقة من دور ووظيفة متميزة. بالإضافة للدور الأوروربي/الأطلسي الجديد، كما أعدّ له وأخرجه توني بلير في مؤتمر شرم الشيخ الأخير، الذي أعاد للإستعمار الأوربي دوراً جديداً في الوطن العربي، عنوانه ضبط حركة الملاحة لمنع تهريب السلاح! إنها النسخة الأكثر قبحاً وسخرية في اعادة انتاج الاحتلالات العصرية الحديثة. إنها وباختصار شديد، ضخ الروح في النسخة المعدلة للاستعمار.
في ظل هذا المشهد الزاخر بالأحداث، تفتتح الإدارة الأمريكية الجديدة مهمتها بالمنطقة. فهل ستكون نتائج التقرير مستندة على حجم مذبحة غزة، أم على ماتسببه صواريخ المقاومة في مستعمرات العدو، أم على فشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه، أم على وقع محركات البوارج والفرقاطات والمدمرات الحربية لأمريكا وحلفائها. لن ننتظر الكثير من الوقت لمعرفة الجواب. فسيد البيت الأبيض حدد الموقف السياسي (نحن سنحافظ على أمن وسلامة «إسرائيل»)، وثَبّتَ في إدارته أبرز المؤيدين للكيان من أمثال رام عمانوئيل، و دينيس روس. فهل ترك لنا الرئيس الجديد أية تفاؤلات؟