حوار الفصائل في البحث عن مخرج
عشرة أيام من التفاوض والسجال دار بين مندوبي الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية، وبمشاركة بعض الشخصيات «المنتقاة» من خارج الإطار التنظيمي للقوى، والقريبة لحد التماثل، في بعض الأسماء، مع سياسات سلطة رام الله . الأيام العشرة التي مرت على المتحاورين في جولة الحوار الثانية داخل مبنى المخابرات المصرية، لم تكن شبيهة بالأيام العشرة التي كتب عنها الأمريكي «جون ريد» رائعته عن الثورة البلشفية الروسية. فبعيداً عن القوالب الجاهزة التي وضعت فيها نجاحات وإخفاقات اللقاءات بين قطبي الحوار و«الواقع»، المتفق عليها مع طاقم المخابرات المصرية المشارك في كل لجنة، ظهرت نقاط الخلاف في لجان الحكومة والمنظمة والانتخابات والأمن، بمعنى أن أبرز القضايا المطروحة للنقاش مازالت تدور في حلقاتها المعروفة، المثقوبة، والمفرغة من المخارج الواضحة.
لن أكرر ماكتبته في مقالات سابقة حول لجان الحوار، والمنظمة والمرجعية، والبرنامج الوطني الكفاحي لحركة التحرر الوطنية الفلسطينية، التي هي- للتذكير أيضاً- جزء مهم من حركة النضال القومي التحرري العربي، وركن أساسي من المقاومة الأممية للهيمنة الإمبريالية العالمية. لكن اللافت للنظر، أن اللجان، وأعضاء لجنة التوجيه العليا ينتظرون، الموعد الجديد الذي ستحدده إدارة المخابرات المصرية، للعودة إلى القاهرة في بداية الشهر المقبل، بعد أن عاد «عمر سليمان» من واشنطن، التي زارها ملتمساً الموافقة على تشكيل حكومة «تحترم ولاتلتزم»(!) بالاتفاقيات التي وقعت عليها «قيادة» المنظمة مع حكومة العدو، ومع الأطراف الدولية. إذ لم تنتظر قيادة المخابرات عودة سليمان من رحلته، فبادرت لإبلاغ رؤساء الوفود أن بإمكانهم العودة لمناقشة قياداتهم ومرجعياتهم بالتطورات، في محاولة للوصول لحلحلة العقد- كما تراها واشنطن وبالتالي مصر- لإخراج الاتفاق للنور، في بداية نيسان، بعد أن تعثر الوصول إلى نتائج حاسمة قبل انعقاد قمة الدوحة العربية.
إن مأزق المتحاورين في القاهرة يكمن في اختلاف رؤية كل طرف/ اتجاه/ اصطفاف، للبرنامج السياسي الذي يجب أن تلتزم به قوى الحركة الوطنية الفلسطينية. بل إن التناقض ظهر واضحاً داخل أحد الاتجاهات، المسماة «قوى اليسار». فقد ظهر الخلاف جلياً وواضحاً أثناء الحوارات الداخلية للقوى المؤتلفة بإطاره، حول قرارات الشرعية الدولية، والاعتراف بكيان العدو الإرهابي، التي ستحدد مع محاور أخرى برنامج الحكومة العتيدة. فما بين الموافقة الكاملة «حزب الشعب» والرفض الكامل «الجبهة الشعبية» تراوحت مواقف «الجبهة الديمقراطية»، مما كشف وبوضوح عن مكامن الخلل الأساسية في صيغ الاصطفافات القائمة، وهو مايعكس بالضرورة دور بعض القوى المشاركة في إعادة إنتاج مواقف أحد القطبين، ولكن باسم «الفصيل»، على اعتبار أن ذلك يزيد من صوابية و«شعبية» الموقف، الذي فرضته قرارات المشرف على الحوار، وقيادة سلطة رام الله المحتلة، بالجلوس على مقاعد طاولة المناقشات، ليس لفاعليته الراهنة، بل لانحيازه السياسي، وهذا ماكشفته النقاشات التي دارت حول نسبة الحسم في الانتخابات القادمة، التي ستسلط الضوء على حقيقة الوجود الجماهيري للعديد من الفصائل، التي يعيش قسم منها على «تراثه» الكفاحي في مواجهة العدو، رغم يقيننا الكامل من أن انتخابات تتم في ظل الاحتلال، ومحكومة باتفاق أوسلو، لن تحقق لشعبنا كرامته وسيادته، المهدورة في معازل الاعتقال الجماعي.
على الرغم من تعارض التصريحات التي عبّر من خلالها كل تنظيم، ومتحدث، عن الأسباب التي عرقلت التوافقات، فإن مايمكن التأكيد عليه في هذا المجال، هو أن الأساس في الاختلافات القائمة يتمحور/ ينطلق من طبيعة رؤية كل طرف لماهية ومضمون ووظيفة منظمة التحرير. ففي ظل هيمنة ومصادرة «السلطة» الناتجة عن اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو، لدور المنظمة، وبروز التناقض مابين «شكلية» المنظمة بوضعها الراهن، وسطوة و«تغول» السلطة، المستندة، بل والمستقوية بدور مايسمى باللجنة التنفيذية للمنظمة، تزداد الهوة مابين المشككين بتلك اللجنة، الفاقدة لشرعيتها، الناتجة عن فقدانها للنصاب القانوني بسبب غياب ثلث أعضائها البالغ عددهم ثمانية عشر عضواً. فقد توفي خمسة منهم، واستقال السادس، ويمتنع أحد مؤسسيها، وأبرز قادة حركة فتح «فاروق القدومي» عن حضور اجتماعاتها التي تجري في ظل الاحتلال. ولهذا فإن ماتبثه الكاميرات عن ذلك الحشد من الحضور في الاجتماعات، ليس سوى مشاركة من مندوبي الفصائل، ومسؤولي السلطة!
واللافت لنظر المتابعين للحوارات، كان الحضور المقصود لتلك الأعداد من «المستقلين»!. جميعهم كان من الضفة وغزة، ومعظمهم يمثل رؤى سياسية/ اقتصادية مرتبطة بالمركز الإمبريالي. وقد تنادى بعضهم قبل أشهر لتشكيل «منتديات ومبادرات» للوحدة الوطنية، تستند على برنامج الحد الأدنى، الذي لايتصادم مع المحتل، بمقدار مايروم بعينيه وعقله لـ«الآخر»؟ إن هذه التشكيلة، ذات «اللون الواحد» مما يسمون أنفسهم بالمستقلين، تنسجم في توجهاتها مع الموقف السياسي لسلطة رام الله المحتلة، مع حرصها «شطارتها» على إبراز تمايزها النقدي «الهادئ» لبعض الممارسات. وهنا لابد من سؤال قوى المقاومة التي حضرت الحوارات عن «تمريرها» لحضور هذه التشكيلة، وعدم طرحها لأسماء العديد من الشخصيات الوطنية المستقلة في الأردن وسورية ولبنان ودول المهجر، الملتزمة بالمقاومة، وبرؤية نقدية جذرية للواقع الراهن.
إن الحديث عن ربط «الإعمار» بالإعلان عن برنامج حكومة «وحدة أو توافق وطني»، وبالوقائع ستكون حكومة «توافق دولي!» تتوزعها مجدداً المحاصصة الفصائلية، المطعمة بما يسمى المستقلين، وتمارس بأشكال متفاوتة، الاعتراف بحكومة العدو، يعني بالفم الملآن، التفريط بـ«إعمار» وتحصين الإنسان العربي الفلسطيني، بحقيقة مقاومته للاحتلال، وإصراره على تحرير وطنه. إن الضغط على الضحية للاعتراف بـ«عدالة» جلادها، وتنازلها عن حقها بالحياة فوق أرضها، بذات الوقت الذي يندفع فيه العدو، السفاح، القاتل، لنكران وجودها، يعتبر تفريطاً بكل الحقوق والتضحيات.
لن يجد المتحاورون في استجابتهم لراعي الحوار، والأطراف الإقليمية والدولية، باب النجاة، بل إن بوابة العبور الوحيدة نحو شعبهم الموحد، ووطنهم المحرر، هي بدء حوارهم الداخلي الوطني عبر التمسك ببرنامج المقاومة، وبوحدة أداة الصراع مع العدو، دون «رعايات»، هدفها تدجين الحركة الوطنية، وإعادة «تأهيلها» لتستوعب «حقائق» العصر.