«السر الصغير القذر» لغيثنر: حين يصبح حل الأزمة المالية سبباً لها
أخيراً أماط وزير الخزينة الأمريكية تيم غيثنر اللثام عن خطته المنتظرة لإعادة ترتيب النظام المصرفي. ولكنه رفض كشف «السر الصغير القذر» المتصل بالأزمة المالية الراهنة. وبرفضه، يحاول إنقاذ المصارف الأمريكية المفلسة بحكم الواقع، والتي تنذر بإسقاط النظام العالمي برمته في طور جديد، أشدّ ضراوة، لتدمير الثروة.
لم تصمم خطة غيثنر، التي أطلق عليها برنامج الشراكة الاستثمارية بين القطاعين العام والخاص PPPIP، لإعادة العافية لنظام الائتمان، بل إنها خطة معقدة لضخ مزيد من مئات المليارات مباشرة إلى المصارف الرئيسية وشركات وول ستريت المسؤولة عن الفوضى الراهنة في أسواق الائتمان الدولية دون أن يطلب منها تغيير نموذج أعمالها. ومع ذلك، قد يتساءل المرء: ألا يساعد ذلك في حل المشكلة عبر إعادة العافية للمصارف؟
ليس بالطريقة التي تباشرها إدارة أوباما. في دفاع غيثنر، صنيعة كيسنجر، الذي كان مديراً تنفيذياً لمصرف الاحتياط الفدرالي في نيويورك، مؤخراً عن خطته أمام محطة «يو إس تي في»، يجادل بأنّ نيّته «لم تكن مساندة المصارف الضعيفة على حساب المصارف القوية». ومع ذلك، فهذا ما يقوم به فعلياً برنامجه للشراكة. فالمصارف الضعيفة هي خمسةٌ من أكبر مصارف النظام.
في العام 2000، كان هنالك رجلٌ في إدارة كلينتون يدعى لاري سمرز، أصبح لاحقاً وزيراً للخزينة. وقد تمت ترقيته برعاية روبرت روبن صاحب مصرف ساكس غولدمان في وول ستريت من الرجل الثاني إلى الرجل الأول، حينما غادر روبن واشنطن كي يحتلّ منصب نائب رئيس سيتي غروب. وكما أوضحتُ بالتفصيل في كتابي الجديد «سلطة المال: صعود القرن الأمريكي وسقوطه»، والذي سينشر هذا الصيف، فقد أقنع سمرز الرئيس بيل كلينتون بالتوقيع على عدة قوانين جمهورية تفتح بوابات التحكم للمصارف، ما يسمح لها بإساءة استخدام سلطاتها.
كان أحد القوانين الهامة إلغاء قانون غلاس- ستيغال، الذي وضع في فترة الكساد في العام 1933 وكان يمنع دمج المصارف التجارية وشركات التأمين وشركات السمسرة مثل ميريل لينش وغولدمان ساكس. كان القانون الثاني الذي دعمه وزير الخزينة سمرز في العام 2000 غامضاً لكنّه بالغ الأهمية، وهو قانون تحديث تجارة السلع آجلة التسليم. حيث منع ذلك القانون وكالة التنظيم الحكومية، هيئة تجارة السلع آجلة التسليم CFTC، من الإشراف على تجارة المشتقات المالية. ونصّ القانون على إلغاء الرقابة الحكومية على ما يسمى عادةً المشتقات المتبادلة خارج البورصة، مثل القروض غير القابلة للتسديد التي تسببت بكارثة أكبر شركات التأمين في العالم AIG (والتي أطلق عليها ذات مرة المستثمر وارن بافيت تسمية أسلحة الدمار الشامل المالية).
في ذلك الوقت، كان سمرز مشغولاً بفتح بوابات التجاوز المالي أمام شركات الائتمان في وول ستريت. لم يكن مساعده سوى تيم غيثنر، الرجل الذي أصبح اليوم وزير خزينة الولايات المتحدة. أما لاري سمرز فقد أصبح اليوم المستشار الاقتصادي الأول للرئيس أوباما بوصفه رئيساً للمجلس الاقتصادي في البيت الأبيض. فالطلب من غيثنر وسمرز إزالة الفوضى المالية يشابه مثال وضع الثعلب حارساً على قنّ الدجاج.
ما أراد غيثنر إخفاءه عن الرأي العام هو «سره الصغير القذر» المتضمّن أنّ إلغاء قانون غلاس- ستيغال وإقرار قانون تحديث تجارة السلع آجلة التسليم قد سمحا بخلق حفنة من المصارف تحتكر فعلياً قطاعات هامة في إصدار المشتقات.
هنالك اليوم خمسة مصارف وفقاً لبيانات نشرت مؤخراً في التقرير الربعي للمكتب الفيدرالي لمراقبة النقد حول نشاطات المشتقات وتجارة المصارف، تحوز على 96 بالمائة من مشتقات مصارف الولايات المتحدة على هيئة قروض غير قابلة للتسديد، ونسبةً مذهلة تبلغ 81 بالمائة من صافي التعرض للخطر في الائتمان الكلي في حال العجز عن السداد.
هذه المصارف هي بترتيبٍ تنازلي: جي بي مورغان تشاس الذي يحتل المرتبة الأولى ويمتلك 88 تريليون دولار من المشتقات (ما يعادل 66 تريليون يورو!)، يليه بنك أوف أمريكا، 38 تريليون دولار، ثم سيتي بنك، 32 تريليون دولار، والرابع في مراهنات المشتقات هو غولدمان ساكس بما يقارب 30 تريليون دولار من المشتقات. أما الخامس، فهو مصرف ويلز فارغو- فاشوفيا المندمج والذي ينحدر إلى حدود 5 تريليون دولار، وأخيراً في المرتبة السادسة مصرف إتش إس بي سي البريطاني في الولايات المتحدة، 3.7 تريليون دولار. وللتأكيد على جسامة الرقم، فإنّ التريليون يكتب على النحو التالي: ألف ألف مليون.
إن مواصلة ضخ أموال دافعي الضرائب في هذه المصارف الخمسة دون أن تغير نظام تشغيلها يعادل معالجة المدمن الكحولي بمزيد من الخمر المجاني.
المساعدات التي قدمتها الحكومة لشركة التأمين العملاقة AIG والتي بلغت حتى الآن 180 مليار دولار ستستخدم لتسديد التزامات الشركة من القروض غير المسددة لمثيلاتها من المقامرين من قبيل غولدمان ساكس وسيتي بنك وجي بي مورغان تشاس وبنك أوف أمريكا. في الواقع، تعتقد هذه المؤسسات الخمس اليوم أنها كبيرةٌ بما يكفي لتملي على الحكومة الفيدرالية سياستها. يطلق بعضهم على ذلك تسمية انقلاب المصرفيين العسكري!
هذا هو السر الصغير القذر لغيثنر ووول ستريت، اللذين يحاولان جاهدين إخفاءه لأنه سيوجه انتباه الناخب نحو حلول حقيقية. فلدى الحكومة منذ زمن طويل قوانين للتعامل مع المصارف المفلسة، حيث تضعها تحت الحراسة القضائية، وتصنف أصولها وديونها بوساطة مدقق حسابات مستقل. وتطهر التعاملات غير المسؤولة، يخسر حاملو الأسهم وتقسم المصارف المطهرة إلى وحدات أصغر في النهاية، وحين تستعيد عافيتها تباع للجمهور. بذلك، ستعود قوة المصارف الخمسة الكبرى التي تبتز الأمة كلها إلى حجمها الطبيعي. يا للروعة!
إن كل ساعة تضيعها إدارة أوباما، وترفض فيها المطالبة بمراقبة حسابات حكومية مستقلة لمن هو قادر أو غير قادر على سداد ديونه من تلك المصارف الخمسة أو نحوها، ستضخم الكلف المحتملة التي سيدفعها اقتصاد الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي عند انفجار خسارات المشتقات. إنّها برمجةٌ مسبقةٌ لركود اقتصادي أكثر سوءاً ويعني تصاعد إفلاسات الشركات وانفجار الرهون العقارية غير القابلة للتسديد وتسارع نمو البطالة. هذا الوضع يصبح خارج سيطرة (حكومة مسؤولة) لأنّ من يسمح بها هو وزير الخزينة غيثنر ولاري سمرز وأخيراً الرئيس، سواءٌ أتيح له فهم الرهان أم لم يتح.