«ندامة» الحريري سياسياً.. وطبقياً

قوبلت تصريحات «الندامة» تجاه سورية التي أطلقها رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري لصحيفة «الشرق الأوسط» - السعودية الصادرة في لندن، بكثير من القراءات والتحليلات المرحبة لدى الأوساط اللبنانية، سياسياً وإعلامياً، مقابل تجاهل شبه مطبق من التيار الذي يتزعمه «المستقبل» وأنصاره، في مفارقة ربما تشكل المستوى الأول من التشكيك بنوايا هذا الفريق لبنانياً وإقليمياً، وهو الذي يدرك اقتراب انفراط عقده بعد فشل رهاناته والأدوار التي كانت موكلة له بخصوص النيل من دمشق وحزب الله على حد سواء.

على المستوى «الشخصي»، الذي يركز عليه الحريري الابن في معرض حديثه دائماً خلال الفترة الأخيرة عن العلاقة مع دمشق والرئيس بشار الأسد، تشكل هذه التصريحات «قطيعة» مع نسقه المتسق طيلة السنوات الخمس الماضية التي كان يناصب فيها العداء لسورية موجهاً إليها «الاتهامات السياسية»، وهي عند هذا المستوى قطيعة كونه لا يريد أن يكون على نحو سافر «جنبلاطاً» متذبذب المواقف آخر، بغض النظر عما يقال لبنانياً بخصوص توقيت إعلان «الحريري» وملابساته من أنه أراد إطلاق هذا الإعلان من خلال موقعه رئيساً لـ«حكومة الوحدة الوطنية» في لبنان، لا زعيماً لتيار سياسي فيه..!  

الثابت على المستوى الأول حقيقة أن «الانفراج أفضل من التوتر» لكل من سورية ولبنان، ولكن السؤال بعيداً عن «شخصنة» الأمور هو عن «حدود الموقف وأبعاده»، بدءاً من «مدى استقلالية الحريري بقراره أولاً، وبأوضاع لبنان ثانياً هو وبقية القوى الأخرى، عن اللاعبين والقوى والمفاعيل الإقليمية والدولية»، وصولاً إلى موقع هذه التصريحات والمواقف في لوحة الصراع «الاستراتيجي» في المنطقة وعليها..!

في المقابل، وبمعنى المكاسب السياسية المباشرة، تحقق لسورية، من خلال اعترافات الحريري بتسييس الاتهامات وإقراره بوجود شهود زور أضروا بلبنان وسورية والعلاقة بين البلدين، انتصار جديد يعيد ليديها جزءاً آخر من الورقة اللبنانية، بأشكال أخرى وضمن معطيات جديدة، وهي التي اعتمدت في كل الأحوال مع «سعد» لغة واضحة تجاه الخطوط الحمراء والإستراتيجية مثل المقاومة وضرورتها.

فإذا كانت هناك قطيعة لدى الحريري مع مواقفه السابقة، وإذا كانت الأصوات تتعالى في لبنان مطالبة إياه «باستدارة اعتذار غير مباشر مماثلة تجاه المقاومة لتحقيق انفراج في العلاقة معها»، في ظل تجاهل تياره لهذه المواقف والمطالب على حد سواء، فهل يمكن أن تسير الأمور باتجاه «طلاق سياسي داخل البيت» بين الحريري وتياره، وانتهى؟ هذا مستبعد!

ربما كان الأكثر ترجيحاً، بلحظة ملائمة، هو «إعادة تشكيل» التيار، أي خروج بعض أو غالبية المتشنجين من رموز المرحلة السابقة منه، لخلق انقسامات أكثر فيما يسمى بالمصطلحات الطائفية اللبنانية «الشارع السني»، «العائد لبعده الاستراتيجي في دمشق»، مقابل تثبيت شعار «بيروت منزوعة السلاح»، أي بما يبقي، في نهاية المطاف، على فتيل «الأزمة الداخلية اللبنانية» مع حزب الله، والتي ستكون سورية على الحياد فيها إلى حد كبير، بحكم أنها داخلية ليست على جبهة العدو الصهيوني، وبحكم المتطلبات «الحرجة» للعلاقة الجديدة مع الحريري الابن.

الملاحظة الأخرى غير البريئة، تتعلق بخطوط التوازي والتماس بين «تسريبات» اشكينازي الشهيرة، قبل أسابيع عديدة من إقالته مؤخراً، وتصريحات الحريري، فهي توحي بتطابق ما مع ما قاله أشكينازي، وفرّغه مؤتمر قرائن السيد حسن نصر الله، ليعيد الحريري تكرار السيناريو: «سحب الاتهام عن سورية وتوجيهه لعناصر غير منضبطة في حزب الله»، ليبقى أحد أبرز أهداف «التهدئة مع دمشق»، بوصف ذلك وسيلة من وسائل المشروع الأمريكي الصهيوني الذي لم يعترف بهزيمته في المنطقة، ولن يألو جهداً للجم احتضاره، هو ضرب تحالف سورية مع طهران وحزب الله بشتى الوسائل..

فإذا كان «الانفتاح» على دمشق والإقرار بدورها مجدداً بعد سنوات من المحاولات اليائسة للعزل والإطاحة هو إحدى أدوات الاحتواء سياسياً، فإن إيجاد المعادِلات الاقتصادية لهذا الانفتاح، هو العنصر الأساسي الثاني للتذويب ما بعد الاحتواء، مع التذكير باستنتاجاتنا المبكرة بأن اغتيال الحريري الأب كان في حينه قراراً دولياً منسقاً على أعلى مستويات مراكز القرار في العالم وعملائها في المنطقة، بغض النظر عن الأدوات المنفذة.

ومن هنا تأتي اليوم أهمية «الدور الوظيفي» المحدد دولياً لسعد الحريري «غير المستقل»، بما يمثله من وزن اقتصادي ومالي متنام، ذي طبيعة طبقية محددة، في لبنان ومع سورية وفي المنطقة، ولاسيما في ظل حديث الحريري في تصريحات ندامته عن أهمية «السوق السورية بما تمثله من بوابة للبنان على العالم العربي»، المتزامنة مع التحليلات السياسية والإعلامية الدولية التي تربط سبب إحجام الاستثمارات الغربية عن سورية بغياب «سلامها» مع «إسرائيل» وتشترط الثاني لقيام الأول، بما يزيل حسب هذا المنطق «أحد التحديات والصعوبات التي تواجهها دمشق».

أي أن إيجاد المكافِـئات الاقتصادية للعلاقة السياسية مع التمثيل الطبقي للحريري، بوصفه طغمة مالية لبنانية، تستدعي من وجهة نظره على الأقل إيجاد مدخل آخر، جيوب وخلجان أخرى،  لتكريس البرنامج الليبرالي في بنية الاقتصاد السوري، (تعادلها جيوب كروبي وموسوي، سياسياً طبقياً، في إيران)، في وقت يستدعي فيه تعزيز المواقف السياسية السورية، نسف النموذج الليبرالي واعتماد برنامج ذي رؤية اجتماعية- طبقية محددة تنتصر لمصالح السواد الأعظم من السوريين الذين يريدون في كل الأحوال، بحكم تركيبتهم الجينية ربما، علاقة متميزة مع لبنان مع حفظ الكرامات ومن دون إساءة، ومع من هم جديرون بالثقة، ولكن بما لا يزيد من تدهور أوضاعهم المعيشية.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأربعاء, 27 تموز/يوليو 2016 22:55