هل «النكبة» مجرد ذكرى؟
في الخامس عشر من أيار/مايو من كل عام، يحيي الشعب الفلسطيني يوم نكبته، بمزيد من الإصرار على التشبث بوطنه المحتل منذ عام 1948، والتمسك بعروبة الأرض، واستمرارية الوجود عليها. وقد ابتدع هذا الشعب، عبر مواجهته للاحتلال البريطاني، ومن ثم اليهودي-الصهيوني، أشكالاً متجددة من التحدي والمقاومة، دفعت بالعديد من منظري الحركة الصهيونية للبحث في سيكولوجية الانسان الفلسطيني، الرافضة وبإصرار على الانصهار/ التماهي/ التقمص لسلوك ومفاهيم الغازي/ المحتل. وقد جاءت العديد من الأشكال التعبيرية الفردية والجماعية على مدى ستة عقود، لتعيد إنتاج ثقافة المواجهة مع الفكرة والممارسة الصهيونية. وقد برز خلال العقدين الأخيرين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، حراك جماهيري منظم، واسع ومتجذر، يعمل على دحض منظومة المفاهيم التي حاول الاحتلال من خلالها ضبط سلوك المواطنين العرب بحسب ايقاع نظرية «الأسرلة والصهينة».
لقد امتاز الخطاب الفكري/ السياسي الذي تطور على يد قوى سياسية صاعدة، برؤية نقدية، استندت على أهمية تفكيك مفردات اللغة الاعلامية، المنطلقة من تحليل نظري قاصر ساد لفترة طويلة- البعض مازال يستند إليه- قائم على تفسير حدوث نكبة الشعب الفلسطيني والأمة العربية عام 48، بمنطق «المؤامرة» البريطانية/ اليهودية فقط! وباستبعاد مقصود لدور بعض الحكومات العربية بالمشاركة بها. خاصة وأن معظمها في تلك الفترة كان يخضع في حركته السياسية/ الدبلوماسية لتوجيهات الدولة المستَعمِرة أو المنتدبة. إضافة إلى البنى العشائرية/ الإقطاعية التي تَسِمُ طبيعة العلاقات داخل المجتمعات العربية، التي أفرزت تشكيلات تنظيمية، لم تستطع هزيمة الغزاة الجدد، لكونها انعكاساً لتلك العلاقات والبنى المتخلفة، قياساً بالأشكال والأدوات التتنظيمية المتقدمة، التي اعتمد عليها المستعمرون اليهود، بسبب نشأتها وتطورها في المجتمعات الغربية الحديثة.
إن محاولة سريعة للاطلالة على وضع فلسطين أثناء خضوعها لسلطة الانتداب البريطاني، تصبح ضرورية من أجل تسليط الضوء على تواطؤ الحكومة البريطانية من خلال سياسة حكومة الانتداب، التي سهلت قدوم المستعمرين الصهاينة، وأمدت تشكيلاتهم المسلحة بكل أشكال الدعم، وساعدت على إصدار القوانين التي تتيح للغزاة اليهود حرية التحرك والتملك، لتتوصل أخيراً لإصدار وعد بلفور المشؤوم، الذي كان التتويج الفعلي للإرتباط الوثيق بين مصالح بريطانيا والحركة الصهيونية في المنطقة من أجل إقامة كيان يهودي/ استعماري قائم على طرد أصحاب الأرض التاريخيين، ليصبح المخفر الأمامي لحماية المصالح الاستعمارية البريطانية في آسيا وأفريقيا، ويحقق للحركة الصهيونية، المتخفية تحت ذرائع توراتية «مصطنعة»، بناء دولتها في «أرض الميعـاد» التي تروج لها الأساطير الغيبية المتداولة.
تم تنفيذ المؤامرة/ المذبحة بحق أصحاب الأرض الذين يمتلكون 97 بالمائة منها، ولايمتلك اليهود سوى الثلاثة المتبقية. لكن اليوم الأسود الذي أعلن فيه قيام كيان العدو على 78 بالمائة من مساحة فلسطين التاريخية، لم يكن سوى التاريخ المأساوي الذي بدأ فيه الفلسطينيون رحلة عذاب مستمرة منذ أكثر من ستة عقود. بدأت بواكيره في التدمير، والمسح الكامل لأكثر من أربعمائة وعشرين قرية وبلدة، وطرد وتهجير مئات الآلاف منهم، بعدما ارتكبت العصابات الصهيونية أكثر من خمسين مجزرة جماعية.
تأتي الذكرى هذا العام، وشعبنا داخل كيان العدو يناضل ضد قوانين عنصرية فاشية جديدة، تسعى لمصادرة المزيد من الأراضي، وهدم البيوت، والتقنين الواضح في توفير مقومات الحياة الأساسية (الصحة، التعليم، السكن)، وتضييق هامش حرية التعبير، كما حصل خلال الأسبوعين الأخيرين، حينما أقدمت أجهزة العدو على اعتقال المناضلين البارزين «عمر سعيد وأمير مخول»، تحت دعاوى «أمنية» كاذبة، في محاولة لإسكات الصوت العربي الرافض لسياسة تكميم الأفواه، كما صرح بذلك «جمال زحالقة» أحد قادة التجمع الوطني الديمقراطي (عمر وأمير معروفان بعملهما السياسي، الوطني والمعادي للصهوينة، و«إسرائيل» تعمل طيلة الوقت لإضفاء بعد أمني على هذا النوع من العمل السياسي. ولا يمكن فهم ما يجري إلا في إطار ما قاله رئيس الشاباك «الإسرائيلي» يوفال ديسكين بعد الحرب على لبنان وهو أن ما يجري في صفوف الفلسطينيين في الداخل هو التهديد الاستراتيجي على «إسرائيل» كدولة يهودية).
وإذا كان لشعبنا في الداخل شرف المواجهة المباشرة، فإن قطاعاً واسعاً من هذا الشعب يواجه سياسة التنازلات، ومحاولات التفريط بالوطن والقضية، والحصار من خلال الجدران الاسمنتية والفولاذية، والأسلاك الشائكة، بإرادة قوية، تصنع من خلال مقاومتها المسلحة والمدنية، ملامح النهوض الوطني الشامل. كما أن قطاعات اخرى من هذا الشعب، تناضل في أماكن وجودها، من أجل أن تتوفر لها، قوانين أكثر انسانية، تؤمن لها حرية التنقل والعمل والإقامة.
إن ماترسمه النشاطات الوطنية المجتمعية، وآخرها مؤتمر «برلين» للجاليات الفلسطينية في أوربا، يشير إلى تنامي ثقافة وفكر المقاومة، وإلى تعميق فكرة الانتماء للوطن المنكوب باحتلالي 1948 و1967. وهو مايؤكد للجميع، بأن المقاومة، فكراً وممارسة هي طريق الوحدة الوطنية، وهي خارطة الطريق الوحيدة التي تقود لفلسطين المحررة.